أفكار وآراء

حداثة عربية معطوبة!

18 ديسمبر 2019
18 ديسمبر 2019

محمد جميل أحمد -

حقيقة واقعنا في المنطقة العربية وتاريخها المعاصر يقول؛ إن ما بدا كحداثة كانت آليات إنتاجه آليات تخلف، كما يقول الجابري. وكل من يتأمل في أليات إنتاج الخطاب الفكري والسياسي في الحياة العربية سيدرك أنها بالفعل آليات متخلفة؛ فهي نسقية من ناحية أي دائرية مغلقة، وهي من ناحية ثانية يكذبها الواقع العريض.

لا يمكن لأي خطاب نسقي أن يسجل اختراقا في الواقع. وهذا تحديدا ما يدل على نوعية إنتاج الخطاب الحداثي الظاهري إذ تضخه ذهنية عربية فتتجلى من خلال ذلك الخطاب كل الإشكاليات المعيقة عن تسجيل اختراق حقيقي للواقع. قوة الحداثة التي تقحمنا في مجالها العمومي قوة خارجية شكلتها أطر العالم الحديث وأساليب وعيه التي أنتجتها المركزية الأوربية. وهذه القوة التي تشكل الفضاء العام لوعي العالم نحن فيها أجسام مقحمة لا نملك سوى استجابات قسرية للانتظام الشكلي في الحداثة.

هذا لا يعني أننا لم نحاول الاندماج في تلك الحداثة على مدى أكثر من قرنين، وإنما يعني ثمة خطأ أساسي ومنهجي في مقاربتنا لتمثل الحداثة، بما يجرنا إلى السؤال: هل كان فعل التمثل ذاته ممكنا في ظل شروط تاريخية وحضارية معينة؟

كانت الحداثة قدرا، ولا تزال قدرا يضع أمامنا تحديات مختلفة لمقاربته، لكن مقارباتنا التي استمرت على مدى قرنين لم تؤدِ حتى الآن إلى سوية في العلاقة مع حداثة العالم، ومن ثم لم تتشكل لدينا نظم فكر ونظم مجتمع تجعل من انتظامنا في العالم الحديث تجسيدا لسوية تستقطب التناقضات، وتضعنا باستمرار في تقدم مضطرد ينتج قطيعة مع بنى التخلف وآليات إنتاج خطابه التي لا تزال تتحكم في استجاباتنا. ثمة خطأ منهجي ما، يدل عليه الفشل العمومي الذي نعيش فيه حتى اليوم.

لا نزال حتى اليوم عاجزين عن توصيف الحداثة وتعريفها، وهذا جزء من نتائج العجز الذي تعبر عنه القاعدة المنطقية الشهيرة (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).

هناك معيقات تقف في وجه تمثلنا للحداثة، وهي معيقات لن يجدي معها الاستيهام الذي يجعل من مجرد التقليد توهما ما بالاندراج في الحداثة؛ هذه الخدعة لا تزال تتجدد مع كل الأحداث التي تطرأ علينا في سياق الحياة الحديثة.

يمكن القول، إنه على مستوى الكتابة الإبداعية العربية (الشعر والرواية) تشكلت تجارب مهمة، لكنها في الوقت نفسه بدت دائما كما لو أنها على هامش الإبداع الذي يعبر عن تماه خلاق بين مبدعيه والعالم.

الاستثناءات العربية العالمية قليلة جدا (درويش في الشعر ومحفوظ في الرواية) وتعكس لنا تلك الحدود التي عجزت فيها الثقافة العربية المعاصرة عن تمثل إبداعها عالميا بسوية لا تتناسب مع تاريخها العالمي القديم.

ثمة شيء غائب؛ شفرة ما، هوية ما، صورة ما، تعيق باستمرار إنتاج نماذج عالمية من حيث النسبة والتناسب الذي تستحقه الثقافة العربية كثقافة تاريخية عالمية. هل هو ضرب من ضياع لهوية عربية ما؟ أم هو التباس تاريخي غيَّب الذات في أصداء الآخرين. ثمة جزء من لا واقعية الحداثة في تمثلاتها الخادعة يندرج ضمن ذلك الغياب عن التحقق بما هو مختلف.

أبرز علامات غياب تمثلات الحداثة التي تشير بصورة واضحة إلى هويتها الحقيقية ـــ على الأقل كما هي في الغرب على صعيد الحقوق ــ هو أنه يكاد من المستحيل تحقيق قيم الحداثة بلا تحويلات إلى حالة عمومية يتمثلها الناس من ناحية، وبلا تكامل في القيم من ناحية ثانية. من المستحيل مثلا أن يكون هناك ازدهار صناعي أو علمي في مجتمعات تمارس العنصرية بمنطق معكوس أي حين تتصالح معها ولا ترى في علاقتها التصالحية تلك إلا سوية طبيعية في التعبير، فضلا عن أن تخجل منها مثلا؛ مجتمعات كهذه لا يمكنها أبدا أن تبلغ أي مستوى من مستويات الرقي المادي والصناعي إذا ما كانت مستوياتها الروحية والعقلية متدنية في تصورها لحرية الإنسان وكرامته. لهذا لا يمكن أن يكون استكمال الحداثة الخاصة بعالمنا منفكا عن وحدة القيم التي تنتظم صورتها وحقيقتها في الوقت ذاته.

إن الاستعصاء التاريخي الذي منع العالم العربي من الاندراج في الحداثة ليس هو ما ذهب إليه برنارد لويس مثلا حين أدرج هذه المنطقة العربية كاستثناء غامض وغريب خاص بها فهذه رؤية لا تخلو من عنصرية ثقافية بالطبع، لكن جوهر الاستعصاء يكمن في عجز النخب في هذه المنطقة العربية عن تمثل هوية ذاتية للحداثة؛ هوية ينبغي فقط أن تكون إطارا لنتائج المعرفة وسياقاتها في هذا الجزء من العالم.

لا حداثة بلا سياق، سياق إدراك الذات وشفرتها الخاصة في ظل التفاعل مع المرجعية المعرفية للحداثة الغربية هو الجزء الغائب من سرديتنا المفترضة عن الحداثة.