أفكار وآراء

الجذور والتأصيل الفكري.. في ضياء مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني

18 ديسمبر 2019
18 ديسمبر 2019

د. مجدي العفيفي -

(1)

قل هي إشراقة إنسانية يتجلى بها فكر جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وهو الذي يتسم بأنه كوني الفكر، عماني الهوية، عربي النظرة، إنساني الرؤية. قل هي أطروحة عالمية تتعالى رؤيتها على الإطار القُـطري الضيق فتكسر أفق التوقع، لتتجاوز أبعاد المكان والزمان والإنسان.

قل هي نفحة سماوية بلغة الصوفية، تفيض سماحة وتشف محبة للعالم، الذي ينبغي أن يكون كما خلق له، بعيدا عن كل ما يعادي السلم والسلام، عن علم، وعن عمد، وعن جهل، وعن معرفة.

قل ما تشاء في هذا السياق.. لكن أبدا لا تقل إن الأمر مجرد صدفة، فلا شيء في الوجود يخضع للمصادفة، كل شيء خلقه الله بقدر، وكل شيء عنده بمقدار. فأما الإشراقة وتداعياتها فهي «مشروع إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني» هذا العنوان يفكر كثيرا لنص المشروع في كليته، وجاء العنوان الشارح مبينا أكثر للتشكيل والدلالة «التعارف بقيم إنسانية مشتركة».

ثمة مجموعة من الإشارات المحملة بالدلالات تستوقفنا في ثنايا البحث عن الجذور في الأرضية المعرفية والعرفية والأخلاقية والجمالية التي تخلقت مها هذه المبادرة إذ «لا نمو بدون جذور» طبقا لتنظير جلالة السلطان.

(2)

الإشارة الأولى (زمانية).. شهدها يوم السابع من شهر نوفمبر 2019 وهي تتزامن مع تجليات هذا الشهر الذي هو رمز عماني له تشكيلاته ودلالاته على المستوى الذاتي (عيد ميلاد جلالة السلطان) وعلى المستوى الموضوعي (مناسبة العيد الوطني العماني) فكل التحولات الكبرى للنهضة تمت في فضاءات هذا الشهر النابض بالحياة، والناهض بالطموحات، والراكض للإقلاع نحو المستقبل، كما تتزامن أيضا مع بداية عام جديد وبداية العقد الثالث في الألفية الراهنة، حيث تطل عمان على العالم من شرفة اليوبيل الذهبي (1970 - 2020).

(3)

الإشارة الثانية (مكانية).. وقد تمت في ضياء الاحتفال العالمي للتسامح الذي أقيم في العاصمة الإندونيسية «جاكرتا» وهي عاصمة آسيوية متحركة ولها مع التاريخ جولات، ومع الحاضر عطاءات ، وفيها تم الإعلان عن مشروع المؤتلف الإنساني، خلال اجتماعات الطاولة المستديرة الذي شارك فيها حوالي ستين مؤسسة دولية وست منظمات تابعة للأمم المتحدة طرح آراء ومداخلات من قبل المشاركين من مختلف دول العالم ومرئياتهم التي تقدموا بها تجاه المشروع ودور المؤسسات والمنظمات الدولية خاصة المنظمات التابعة للأمم المتحدة ومساهمتها في دعم هذا الإعلان العماني.

(4)

الإشارة الثالثة (حدثية).. إذ جرت احتفالية لتدشين شعار السلطنة باليوم العالمي للتسامح تحت شعار«التعارف بقيم إنسانية مشتركة» الذي يُجسد البُعد الإنساني في العلاقات بين الأفراد والدول والمجتمعات وفق مبادئ الاحترام والتقدير للتنوع البشري في العالم واحترام الثقافات والأديان والمقدسات ونبذ كافة أشكال التطرف والعنف والكراهية، وفي تلك الأجواء تم إطلاق عدد من الطوابع التذكارية العمانية المستلهمة من هذه المناسبة والموثقة لها.

(5)

الإشارة الرابعة (منهجية).. وتشير إليه المساهمة في وضع نهج يعيد التوازن بين المصالح والوصول إلى اقتراح منهج عمل يقدم إلى العالم المضطرب ليعينه على النهوض من جديد، واستشراف حياة متوازنة، يعيش فيه الناس على أساس من الكرامة والحقوق الأساسية والأمان النفسي، ويتضمن المشروع ثلاثة أبعاد ضرورية لإعادة التوازن: يتمثل الأول في تحسين حياة البشر.. والبعد الثاني في اعتماد منظومة أخلاق عالمية.. أما البعد الثالث فيتمثل في رعاية القيم الروحية للإنسان.

(6)

الإشارة الخامسة (مبدئية).. حيث يعلو مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع..

فالرغبة نابعة من قناعات السلطان قابوس وكامنة في خلاياها، وتتحدث بلغة الأعماق البعيدة، هكذا تشير هذه الدعوة لنشر مفهوم التفاهم بين شعوب العالم بما يُعزز العلاقات الإنسانية بين الأمم وقد جاء هذا المشروع من منطلق دوافع التفكير بعمق في مآلات العلاقات الإنسانية بشكل عام وشكل تلك العلاقات وماهيتها في المستقبل القريب أو البعيد وهو ما يضع العالم أمام مسؤولية إنسانية أولا وأخلاقية ثانيا.

(7)

الإشارة السادسة (غائية).. تتجلى كنقطة ارتكاز في ثلاثة أبعاد مهمة أو هي ثلاثية حضارية إنسانية لتحقيق التعايش والتعارف بين البشر وهي العقل.. العدل.. الأخلاق، والتي بدورها ترتكز على ثلاثة موجهات أساسية تتصل بالسلوك البشري تتمثل أولا في تعزيز ثقافة السلام، وثانيا في التفاهم واحترام الحياة وتقديرها وطمأنة الناس بالحفاظ على هوياتهم وحياتهم الخاصة، وثالثا في تعميق قيم الشراكة المجتمعية والقيم الاجتماعية «طبقا لما بثته وكالات الأنباء في العالم من معلومات أولية».

(8)

الإشارة السابعة (مهادية).. ثمة ثلاثة أمور تمثل مهادا فكريا للأرضية المعرفية التي تمتد عليها دوائر التكوين العام في الخطاب السلطاني، أولها أن منظومة جلالة السلطان الإنسانية، تتشابك خيوطها زمنيا إلى درجة يكاد يصعب، بل يستحيل الفصل بينها، فالفصل - إن حدث - يخل بالتوازن، لأن الزمن وإن كان مسارا تشتد الحركة عليه أو تهدأ، يتسارع إيقاعه أو يبطئ، بيْد أنه تيار متصل متدفق، وهو غير قابل بالطبيعة لأن ينقطع، وثانيها أن خطوط المنظومة تتداخل، ولابد أن تتداخل، ذلك أن اللحظة التاريخية المؤثرة في حياة الأمم، محال أن تتفجر من فراغ، بل لا بد لها من مخاض فكري يسبقها بإرهاصاته، وثالثها أن حلقات المنظومة تتواصل باستمرار، وإن تباعدت أحيانا، فذلك ينسجم مع معنى أن الفواصل الرئيسية في الزمن هي مناسبات تستحق الحفاوة والاحتفال، وأنها أيضا مفعمة بالدلالات الرمزية.

(9)

الإشارة الثامنة (قيمية)... تتكشف رؤية جلالة السلطان للإنسان والعالم بمجموعة من الثوابت، وأخرى من المتغيرات، تنضوي تحت القيم الثلاث الكبرى التي يجمع قادة الفكر الإنساني على أنها هي التي تضبط حياة الإنسان الفكرية والعملية على حد سواء، وهي قيم الحق.. الخير.. الجمال، في هذه المنظومة يتبدى بجلاء أن القيم لا تتجزأ، لأن فكر صاحبها ليس فكرا على فكر، إنما هو فكر نابع من واقع الحياة، فكر على مشكلات حية، وهذا هو شأن الفكر العظيم، كما تجمع الأدبيات الإنسانية.

(10)

الإشارة التاسعة (تأصيلية).. «لا نمو بدون جذور...» هكذا يقول جلالة السلطان، وفي سنائها تتضح أبعاد هذه المبادرة، إذ لابد من العودة إلى الجذور، فالإحاطة بهذه الجذور تجعل الخطاب في مراحله المتعددة وعبر تحولاته النوعية يشير بشكل متكرر أن عمان «قد دأبت باستمرار على أن تقوم بدورها كاملا على المسرح العالمي بالتعاون مع كل الدول الصديقة في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان وعزته وكرامته» وهو المبدأ الذي يظل محملا بالقصدية منذ بداية بث الخطاب السلطاني بكل مفرداته حتى اليوم، إذ يقدم بين الحين والآخر إنارة جديدة داخل محيط دائرة السلام بقيم مضافة مثل الحق والعدل والأمن والإنصاف «ندعو إلى حل جميع المشاكل الإقليمية بالطرق السليمة التي تعطي لكل ذي حق حقه، كما ندعو إلى بذل الجهود من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع العالم المضطربة على أساس من العدل والإنصاف واحترام حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي».

(11)

الإشارة العاشرة (جوهرية).. ذلكم أن السلام - استراتيجية ونهجا - يشكل جوهر الممارسة السياسية لجـلالة السلطان قابوس المعظم منذ بداية مسيرة النهضة العُمانية الحديثـة انطلاقا من حقيقة أن عمليات البناء والتنمية الوطنية وتشييد الدولة العصرية يتطلب توفير مقومات ضرورية في مقدمتها المناخ المواتي لذلك محليا وإقليميا ودوليا باعتبار أن السلام كل لا يتجزأ، فإن السلام كقيمة عليـا لدى جـلالة السلطان شكل محور السيـاسات العمـانيـة على المستويـات المختلفة خـليجـيـا وإقليميا ودوليا دون تفريط أو إفراط وامتلكت السلطنة بفضل الإيمان العميق بالسلام القدرة والشجـاعة ليس فقط على التعبير بكل الوضوح والصراحـة عن مواقفها ورؤيتها حيال مختلف المواقف والتطورات الخليجية والعربية والدولية، ولكنها كذلك عملت بجد والتزام من اجل وضع ذلك موضع التنفيذ في علاقاتها مع الدول الأخرى وفي إطار الثوابت العُمانية. (للحديث بقية)