أفكار وآراء

الوضعان السابق والمأمول

18 ديسمبر 2019
18 ديسمبر 2019

مصباح قطب -

[email protected] -

تشكل مؤخرا ملتقى بحثي إقليمي بعنوان: «مجموعة الخبراء لبحث قضايا الوظائف والنمو الاقتصادي في بلدان شمال أفريقيا» . يشارك في أعماله خبراء وأكاديميون من مصر وتونس والمغرب والسودان ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا ومنظمة العمل الدولية ، ومن تركيا وإيران، بالإضافة إلى باحثين من جامعات دولية مرموقة.

يتيح الملتقى حسب ورقته المفاهيمية الفرصة لتشجيع الحوار وتبادل الآراء بين علماء الاقتصاد والاجتماع، وصناع القرار حول الهدف المزدوج المتمثل في تعزيز كل من الوظائف والنمو الاقتصادي.

وتنطلق البحوث المقرر إجراؤها من فكرة انه ورغم اختلاف بعض خصائص بلدان شمال أفريقيا، إلا أن هناك العديد من القواسم المشتركة بين دولها، مما يتيح المجال لتبادل الخبرات فيما بينهم خاصة في كل ما يتعلق بسوق العمل وارتباطاته. وسيقوم منتدى البحوث الاقتصادية ومنظمة العمل الدولية سويا بتنظيم هذا الملتقى، ويستفيد من تمويل الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي ، كجزء من مشروع النهوض بالعمل اللائق في شمال أفريقيا.

يهدف الملتقى إلى الوصول إلى فهم أفضل للعلاقة غير الخطية بين النمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل، والعوامل والسياسات التي قد تؤثر على ذلك في البلدان المعنية. وتأثير الاستثمار العام وتقلبات الدورة الاقتصادية والحوافز المالية وغير المالية على الاستثمار الخاص، ونمط الترويج القطاعي، ورأس المال البشري (التعليم والتدريب).

إن أهم أمر يعنينا هنا هو نقطة الانطلاق إلى تأسيس الملتقى فهو ناتج نظرة ترى أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهد نموا ملحوظا في منطقة شمال أفريقيا، ولكنه انتهى بموجة غير متوقعة من الاضطرابات السياسية التي لا تزال باقية هنا أو هناك ، ورغم قربها الزمني لم تتم الاستفادة حتى الآن من بعض دروسها، ولا تزال اهتمامات السياسة العامة والخطاب العام تتركز إلى حد كبير حول «العودة إلى أجندة النمو الاقتصادي». أي العودة إلى النمو الذي كان . إنني ألمس ذلك في الكثير من البلدان. في دول الخليج العربية تحن السياسة إلى استعادة فترة ارتفاع أسعار النفط والفوائض التي سمحت بقدر ملموس من الازدهار والنمو ، ومع أن الكل يعلمون أن أسعار النفط لن تعود إلى مستويات الارتفاع التي بلغت ذروتها في منتصف 2008 كما أنه يصعب أيضا تمويل التوسع العام في الاستثمار أو في الطلب الخاص كما جرى ، مرة أخرى . وفي بلدان تعرضت لموجات من الغضب أو الفوران خلال ما نسميه الربيع العربي يحن الكثيرون إلى العودة إلى النمو الذي تحقق مع السياسات النيوليبرالية في العقدين الماضيين

وصولا إلى اندلاع أحداث الغضب أيضا. مع أن كل حصيف يدرك أن النمو المرتفع الذي حدث لم يمنع اندلاع موجات الاحتجاج ما يدل على انه توجد مشكلة حقيقية لا يمكن تغافلها . لا أحد يمكن أن يعارض النمو المرتفع حتى ولو كان من المدرسة التي تعنى بسلامة التوزيع أولا ، أو التوزيع بالتوازي مع النمو ، غير أن هذا التمني الأخير يتناسى أو يخطئ بشدة حين يتغافل عبر الماضي وأسباب النزول إلى الميادين . من هنا لابد من توجه جديد إلى سياسات مغايرة ومتكاملة حتى يتحقق نمو ذو طبيعة مختلفة ويتحقق معه قدر كاف من فرص العمل الجيدة . لم يكن ما حدث مجرد خطأ عرضي أو هامشي وكانت تكلفة الخلل مرتفعة للغاية وتمثلت في ارتفاع البطالة وتباطؤ النمو وزيادة حدة التفاوت الاجتماعي وعدم الثقة في كل ما هو رسمي تقريبا .

أعود إلى الورقة المفاهيمية التي تقول إنه يوجد اعتراف بأن النمو الاقتصادي المرتفع الذي شهده العقد الأول من هذا القرن، لم يستفد منه الكثيرون بل حدث تراجع نسبي على الأقل، في مستويات معيشة فئات واسعة؛ نظرا لانحسار عدالة التوزيع. لذلك لا ينبغي النظر إلى معدلات النمو على أنها تشمل الجميع تلقائيا، ولكن لابد من النظر لجودة هذا النمو أيضا، بحيث يكتسب النمو أهميته الحقيقية من قدرته على الاستفادة بشكل جيد من القوى العاملة وإطلاق قدراتها. وتضيف : «على الصعيد الدولي، تتزايد حاليا الإشارة إلى مفاهيم النمو الغني بفرص العمل أو الفقير به تأكيدا على أهمية عنصر توفير فرص العمل».

وأرى كمراقب أيضا أن هناك زاوية أخرى طال إهمالها في السياسات أو الرؤى الحكومية بالمنطقة طوال العقود الماضية ألا وهي النظر إلى البطالة باعتبارها المؤشر الرئيسي لكل ما يرتبط بسوق العمل . هذا أمر غير صحيح وكما يقول الاختصاصيون فإن البطالة بمعناها الحالي تكاد تكون مشكلة القادرين في بلادنا فبتعريفها هي : «كل قادر على العمل وراغب فيه ويسعى إليه عند مستويات الأجر السائدة ولا يجده» . ان التعريف يبين بوضوح كيف انه يمكن ان يكون المتبطل وفق هذا المفهوم ، وفي الغالب ، هو شخص قادر وراغب وسعى لكن لا ترضيه الأجور السائدة ففضل ألا يعمل إلى أن يجد فرصة افضل ، ومن لديه هذا الخيار أو الترف فانه قادر ماديا او أسرته قادرة لكن الفقراء عادة لا يملكون ترف أن يكونوا متبطلين، فهم يعملون في كل الحالات ، ومهما كانت طبيعة العمل أو الأحر ، ومن هنا بات العالم يعنى بمفهوم العمل اللائق يوما بعد يوم ، من أجل البشر الذين هم هدف أي تنمية من ناحية ، ومن أجل جودة النمو والإنتاجية العالية من ناحية أخرى.

تقول الورقة المفاهيمية كذلك إن سوق العمل وقواه بتركيبتها وتعقيداتها أكبر بالطبع من أن يتم اختزالها في مؤشر البطالة ودلالاته. وينبغي أن يشمل تحسين الخطاب الوطني الخاص بقضايا النمو الاقتصادي والوظائف كسر نمط الجزر المنعزلة داخل فروع الاقتصاد اذ نادرا ما تتفاعل مجالات الاقتصاد الكلي، والجزئي، واقتصاديات العمل مع بعضها البعض. كما يتعين تعزيز استخدام البيانات الاقتصادية وضمان توافرها ومصداقيتها، بما في ذلك إحصاءات العمل. وأخيرا يتعين أيضا تعزيز ثقة الأفراد في الإحصاءات العامة، والسياسات الاقتصادية عامةً. عند هذه النقطة أقول إن المنطقة يجب ان تتهيأ إلى نوعية جديدة من المخرجات المعلوماتية وبالتالي التحليلية التي ستنتج عن توظيف تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي في جمع وتصنيف وترتيب وتحليل البيانات ، ولا أبالغ إذا قلت انه يصعب على الكثير من الحكوميين التقليديين وكذلك الباحثين ، بل والصحفيين والإعلاميين ، التعامل حاليا بالمهارة المطلوبة مع هذا الفيض من المعلومات والبيانات ولذا فاستعداد الجميع واجب وتدريبهم حتمي. سيزيد الطلب بين الساسة وصناع القرار أيضا على مؤشرات ابسط بقدر ما هي أدق عن الاقتصاد الكلى او الجزئي بما فيه بيانات سوق العمل المتنوعة والمستهلكين الخ ، وسترتفع قيمة مسوح القوى العاملة و دخل الأسرة والإنفاق والاستهلاك، لأنه يمكن من خلال الباحثين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والانثروبولوجية استخلاص توصيات مهمة منها حول طرق تحسين تلك الإحصاءات ذاتها ودعم مدى توافرها وإتاحتها ناهيك عن استخدامها هي والتوصيات في تقوية إنتاج قرارات تؤلف بين قلوب النمو والتنمية والعمل اللائق وبشكل مستدام.