الملف السياسي

ركيزة أساسية للتنمية والتقدم والازدهار!

16 ديسمبر 2019
16 ديسمبر 2019

د. عبد الحميد الموافي -

إذا كانت الدول العربية والإسلامية قد تقاعست، إلى حد كبير، في فهم معنى ومدلول أول كلمة نزل بها القرآن الكريم، وهى كلمة «اقرأ»، التي تشكل مفتاحا بالغ الأهمية للفهم والعلم والمعرفة بوجه عام، وإدا كانت دولنا العربية والإسلامية لم تتمكن حتى الآن على الأقل من الاستفادة من تراثها الحضاري المرموق والذي قدم شعاع نور ومعرفة للعالم، في وقت كان ظلام الجهل يسيطر على معظم أرجاء المعمورة، فان الأمر الذي يتفق عليه الجميع، عربيا وإسلاميا وعلى امتداد العالم هو أن المعرفة والبحث العلمي قد مثلا، ولا يزالان يمثلان، أحد أهم ركائز التنمية والتقدم والازدهار، بل إن ما نعيشه ونستخدمه في حياتنا الآن، من منتجات وخدمات عديدة ومتنوعة، ندين به لجهود العلماء والباحثين ورواد الابتكار في العالم، منذ ما قبل الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في القرن الثامن عشر وحتى الآن، وفي كل مجالات الحياة أيضا.

ورغم هذا الاتفاق العام والراسخ أيضا، إلا أن المعضلة والعقبة الأساسية بالنسبة لنا، عربيا وإسلاميا، تكمن الى حد كبير في رؤيتنا للعلم وللبحث العلمي من ناحية، وفي تعاملنا وقدرتنا المتدنية على الولوج بشكل ملموس الى هذا المجال بشكل حقيقي، وتحويل البحوث والأفكار العلمية إلى منتجات وخدمات نملك ملكيتها الفكرية، أو حق الاختراع بالنسبة لها من ناحية ثانية، مكتفين في كل أو معظم الحالات بأن نكون مستهلكين للإنتاج الغربي وغير الغربي في هذا المجال، طالما نملك الأموال التي تمكننا من شراء تلك المنتجات والخدمات، ونحن لا نفكر في أن الاعتماد الكبير على استيراد مثل تلك المنتجات والخدمات، يحد بالضرورة من قدرتنا نحن على الاستقلالية، والتحرك وفق مصالحنا الوطنية، حيال أصدقاء وأطراف أخرى مارست معنا – كدول عربية – الضغوط ولا تزال، سواء بحرمان أبنائنا من التخصص والتعمق في دراسات علمية بعينها في الجامعات الأمريكية والغربية عموما، أو حتى بحجب بعض المعدات في مجالات الطيران والدفاع على سبيل المثال، ونزعها من طائرات نستوردها وندفع ثمنها، كما يحدده هؤلاء، أو بترك بعض هذه المعدات بشروط مبالغ فيها حماية للتفوق الإسرائيلي علي العرب من حولها.

وإذا نظرنا من زاوية أخرى فإننا نفاجأ بأننا كدول عربية وإسلامية نعاني من ظاهرة هجرة العقول، أي هجرة العلماء والباحثين من دولنا الى الغرب، ليس بالضرورة طمعا في المال، ولكن بحثا عن بيئة علمية مواتية لهم ولتطلعاتهم ولجهودهم، وبالطبع الاستفادة منها عمليا لهم وللمجتمعات التي يعيشون فيها. يضاف الى ذلك ان القاعدة التي باتت معروفة هي أن الكثيرين من أبنائنا، وفي مختلف المجالات يحققون إنجازات وتقدما وتفوقا في مجالات عملهم خارج بلادنا العربية والإسلامية، والأمثلة عديدة من كرة القدم الى مجالات الذرة والفضاء وتقنية النانو وغيرها. ومن المؤكد ان أبناءنا هؤلاء لا يمكن لومهم على هجرتهم، ولا على تفوقهم خارج أوطانهم الأصلية، وذلك لسبب بسيط هو أن المسؤولية الأولى عن هجرتهم تقع على عاتق دولهم، التي لم تتمكن من توفير البيئة المناسبة لاحتضانهم وتوفير المناخ القادر على الاستفادة منهم، كعلماء وباحثين ومبتكرين دون محاكمة للنوايا، أو كبت ومصادرة للأفكار بشكل أو بآخر. على أية حال فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: ان البحث العلمي، سواء في مجال العلوم الأساسية، أو في مجال العلوم الاجتماعية، يرتبط إلى حد كبير، أو ينبغي أن يرتبط باحتياجات البيئة التي يعيش فيها، صحيح أن هناك مجالات يبتعد فيها البحث العلمي أحيانا عن الاحتياجات العملية، ويحلق عاليا في مجالات تبدو نظرية من أول وهلة، ولكنها تعود في النهاية لخدمة البشرية جمعاء عندما يتم ترجمة نتائجها الى خدمات او منتجات مفيدة في هذا المجال أو ذاك. ومن هنا يثور التساؤل، هل مجتمعاتنا العربية طاردة او غير مشجعة للبحث العلمي؟

الإجابة هي بالنفي، ولكن الأزمة تتمثل، في كثير من الأحيان، في النظرة الى البحث العلمي، والى الأولوية التي ينبغي أن يحظى بها ضمن أولويات خطط التنمية العربية. ومع الاعتراف بأن مشكلات مجتمعاتنا العربية، لا تزال كبيرة ومتشعبة، بما فيها الأمية التعليمية والأمية التقنية، فضلا عن مشكلات التعليم والتوظيف بالنسبة لشبابنا، إلا انه من المؤكد أن البحث العلمي يمثل احد اهم كلمات السر والركائز التي لا غنى عنها لتحقيق التنمية المستدامة والتقدم والازدهار لمجتمعاتنا هذه، إذا تم التعامل معه – أي البحث العلمي – بجدية واهتمام وليس بالمظهرية، وإذا توفرت له الإمكانات المالية الملائمة والكافية أيضا لدفعه للأمام.

وقد يقول قائل إن دولنا العربية لديها تلال من مشكلات التنمية الاجتماعية والاقتصادية بمعناها الواسع، وان البحث العلمي ينظر إليه على أنه ترف يمكن تقليل موازناته، خاصة وان البحوث العلمية تستغرق وقتا بالضرورة، وتحتاج أيضا إلى تحويلها إلى منتجات وخدمات قابلة للاستخدام، وهو ما يقتضي توفير التقنية القادرة على ذلك والشركات أو المصانع القادرة على القيام بهذه الخطوات التكنولوجية و التي تستغرق مدة غير قليلة من الزمن وإنفاقا كبيرا أيضا، ولأن القطاع الخاص في الدول العربية، لا يزال قطاعا رضيعا في اغلب الأحيان، أو يريد فقط أن يتغذى على منح الحكومة أو مساعداتها، فان الكرة تعود الى الحكومات، وهو أمر لا ترحب الحكومات بالإنفاق الكبير عليه عادة. أما في أوروبا والولايات المتحدة فان القطاع الخاص، يقوم عبر شركاته بدور الإنفاق على البحث العلمي في المجالات المرتبطة بأنشطة تلك الشركات، والاستفادة العملية من نتائج البحوث عبر امتلاك حق الملكية الفكرية لها، وهو أمر شائع، سواء في مجالات الدواء أو في مجال النقل والاتصالات و تقنيات الطاقة المتجددة والكهرباء والزراعة وغيرها والأمثلة في هذا المجال اكثر من أن تحصى، من المعدات الطبية ومعدات الطاقة والبث الإذاعي والتلفزيوني وحتى أجهزة الإضاءة وشفرات الحلاقة وغيرها فالقطاع الخاص يمول نحو 80% من مشروعات البحث العلمي هناك، لكن الصورة مقلوبة في مجتمعاتنا العربية بوجه عام. وهو أمر لا مناص من تعديله إذا اردنا دفع جهود البحث العلمي إلى الأمام بخطى أسرع.

ثانيا: انه في الوقت الذي يمثل فيه البحث العلمي احد أهم ركائز تحقيق التنمية والتقدم والازدهار، فإنه كان بمثابة القاسم المشترك الأكبر بين جميع الدول التي استطاعت تخطي عتبة التخلف في السنوات الأخيرة، سواء بالنسبة للنمور الآسيوية، أو بالنسبة لبعض الدول الإفريقية واللاتينية والأوروبية الشرقية.

وإذا كان من المعروف أن دولا آسيوية كالصين والهند وكوريا الجنوبية على سبيل المثال قد بدأت جهودها التنموية في الخمسينيات – الصين – والستينات – الهند وكوريا الجنوبية – وبالتزامن مع بعض دولنا العربية، فإن الواقع اليوم يقول بوضوح بنجاح تلك الدول وتواضع إنجازاتنا العربية. صحيح إننا كعرب تعرضنا للكثير من المشكلات، ولكن المؤكد والصحيح أيضا هو ان مجتمعاتنا العربية ليست رافضة للبحث العلمي وللتطور، ولكن المشكلة تظل مشكلة إدارة ومشكلة خيارات وأولويات تحددها الحكومات في النهاية، خاصة وان الحكومة في دولنا العربية لا تزال تقوم بالدور الأكبر في كل مجالات التنمية. والمؤكد انه ليس مصادفة أبدا ان تهتم إسرائيل على سبيل المثال بتطوير البحث العلمي فيها، حيث يقوم معهد «التخنيون» بدور بالغ الأهمية في هذا المجال. والى جانب محاولته، هو ومراكز البحث العلمي الإسرائيلية الأخرى الاستفادة من العلماء والباحثين اليهود في الغرب والعالم ككل، فإن إسرائيل تخصص نحو واحد في المائة من حجم الناتج القومي الإجمالي لها للبحث العلمي، وبلغ ذلك اكثر من ستة مليارات دولار، فان الدول العربية تخصص في المتوسط نحو 0.2 % فقط من إجمالي الناتج القومي الإجمالي لها للبحث العلمي وقدر ذلك بنحو 7. 1 مليار دولار عام 2004، وقد أدى ذلك إلى ان إسرائيل تصدر برمجيات بنحو 20 مليار دولار سنويا.

من جانب آخر فإن دولا بعينها ومنها كوريا الشمالية على سبيل المثال استطاعت، برغم مشكلاتها الغذائية، ان تطور بحوثها في مجال الأسلحة النووية والصواريخ، وأن تتحول إلى واحدة من مصدري السلاح في العالم. كما ان الصين والهند تحققان قفزات مهمة في مجالات الاستفادة من نتائج البحث العلمي، سواء في مجالات الاتصالات – شركة هواوي – أو في مجالات التسليح وتقنيات الفضاء، كما أن الهند أصبحت معروفة بأنها تمتلك اشهر خبراء التقنية والكمبيوتر في العالم، فضلا عن قدراتها في مجلات الاتصالات والتسليح وأصبحت هي الأخرى من رواد الفضاء. وفي كل الحالات كان البحث العلمي هو السبيل وهو الأداة الرئيسية، بدءا من تأهيل وتدريب الكوادر الوطنية، وحتى تحويل المخترعات والمشروعات البحثية الى سلع ومنتجات ملموسة والى خدمات تجني تلك الدول من ورائها الكثير من العائدات المالية والأدبية ايضا.

من جانب آخر فإنه إذا كان من المعروف ان حجم ما تخصصه الدولة للبحث العلمي ونسبة ذلك إلى الناتج المحلي الإجمالي لها، هو من أهم مؤشرات تصنيف الدول وترتيبها كدول نامية او صناعية او متقدمة، فان الدول العربية تحتاج بالضرورة إلى تخصيص حجم اكبر من الأموال للإنفاق على البحوث العلمية من ناحية، والى إيجاد بيئة علمية وبحثية مشجعة على البحث العلمي، وجذب مزيد من الباحثين الشباب للسير في هذا الطريق وتوفير كل ما يحتاجونه من دعم مالي وأدبي واستيعابهم في المراكز المناسبة لتخصصاتهم من ناحية ثانية، حتى يمكن الاحتفاظ بهم والاستفادة منهم، لأن عدم توفر ذلك يدفع بالكثيرين منهم إلى الهجرة او على الأقل قبول العمل في مراكز إقليمية او دولية قادرة على تحقيق طموحاتهم، وهو ما يشكل خسارة كبيرة لمجتمعاتهم التي أنفقت عليهم الكثير ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من تفوق في مجالات تخصصهم. ومن المؤكد ان ذلك يتطلب بالضرورة تطوير أنظمة التعليم بكل مراحله و كذلك برامج التدريب وربطها، باستراتيجية البحث العلمي وباحتياجات التنمية المستدامة الآن وفي المستقبل.

ثالثا: انه من غير المبالغة القول بأن السلطنة قد تنبهت مبكرا إلى أهمية تطوير التعليم، سواء التعليم العام أو الجامعي، مع اهتمام جلالة السلطان المعظم بتشجيع البحث العلمي، وهو ما تجسد منذ سنوات طويلة في إنشاء العديد من المراكز العلمية المتخصصة في إطار جامعة السلطان قابوس من ناحية، وفي المكرمة السامية بتمويل ألف مشروع بحثي في مجالات البحوث المتطورة ذات الصلة باحتياجات التنمية المستدامة، الآن وفي المستقبل على نفقة جلالته - حفظه الله ورعاه – وهو ما بدأ تنفيذه بالفعل وفق ضوابط وشروط تحقق الهدف منها من ناحية ثانية. يضاف إلى ذلك أن إنشاء مجلس البحث العلمي، بالمرسوم السلطاني السامي رقم 54/‏‏ 2005، يمثل دفعة بالغة الأهمية لتشجيع البحث العلمي ولربط مشروعات البحث العلمي باحتياجات التنمية كذلك.

وفي هذا الإطار يقوم مجلس البحث العلمي، برئاسة صاحب السمو السيد شهاب بن طارق آل سعيد مستشار جلالة السلطان بدور حيوي، من خلال البرامج التي يعمل عليها ومن خلال وضع استراتيجية البحث العلمي للسلطنة (2040-2020) والإعداد لاستراتيجية الابتكار والأخذ بيد الباحثين العمانيين ورعايتهم.

جدير بالذكر أن استراتيجية البحث العلمي تتضمن مجموعة متكاملة من البرامج، 17 برنامجا، ويتم تنفيذ الاستراتيجية على 3 مراحل، كما ان استراتيجية الابتكار، التي يعدها مجلس البحث العلمي، تقوم على 4 ركائز أساسية هي: التعاون والتواصل، والرأسمال البشري، وحقوق الملكية الفردية، والتنوع الاقتصادي، ومن المعروف أن المجلس ومختلف مؤسسات الدولة تعطي اهتماما كبيرا لتشجيع الشباب على الابتكار وعلى ربط مشروعاتهم البحثية بجوانب تنموية محددة بقدر الإمكان، كما أنها تشجع الباحثين والطلاب ورواد الأعمال على العمل لتحويل نتائج بحوثهم إلى منتجات وخدمات عملية، خاصة وان عددا غير قليل منها حاز جوائز إقليمية ودولية في منافسات ومسابقات شارك فيها باحثون وطلاب من جامعات مختلفة على مستوى العالم.

ومع التأكيد على أهمية وضرورة رعاية وتشجيع الباحثين، بكل فئاتهم، وتشجيع مؤسسات القطاع الخاص على تبني أعداد متزايدة من المشروعات ورعاية الباحثين، فان عقد الندوة الوطنية لمشروع الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي ( 2020 – 2040 ) امس الأول، وكذلك عقد الملتقى السنوي للباحثين أمس الاثنين وتكريم أفضل المشاريع البحثية في ستة قطاعات بحثية من حملة الدكتوراه والباحثين الناشئين وأفضل المشروعات الطلابية، من شأنها أن تشجع الباحثين العمانيين على المضي قدما وبذل مزيد من الجهود في بحوثهم للخروج بنتائج تعود بالخير على المجتمع وعليهم أيضا، في الحاضر والمستقبل.