الملف السياسي

الخروج من التاريخ

16 ديسمبر 2019
16 ديسمبر 2019

حسن عبدالله -

يظل تراجع وتخلف العالم العربي في مجالات البحث العلمي المختلفة «معضلة» تاريخية، معلومة للجميع لكنها تفتقد إلى إرادة جامعة للخروج منها.

المشكلة كما ترصدها الأرقام التي تنشرها المؤسسات الدولية والإقليمية والمحلية، تشكل أزمة متكاملة الأركان، واضحة كالشمس، ومع ذلك يتعامل معها الكثيرون كأمر قدري دون أن ينتبهوا إلى أننا بالفعل أصبحنا أمة مهددة بالخروج من التاريخ.

لقد تنبه الغرب منذ انطلاق الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر إلى أهمية البحث العلمي والاقتصاد المعرفي للنهوض والتنمية، فعملوا على الارتقاء بالعلم، ومنحوا العلماء والباحثين والمؤسسات البحثية الحرية والدعم المادي الكاملين كي يبتكروا ويخترعوا لحل مشكلات مجتمعهم، ولتصبح تلك الاختراعات مصدرا مهما من الدخل القومي لتلك الدول التي تكسب المليارات، بل التريليونات، جراء تسويق تلك الابتكارات وبيعها للأمم الخاملة والكسولة القابعة في ذيل الدول المتخلفة التي تقتات على ما أنتجته عقول غيرها دون أن تشعر بالمهانة أو تنتبه إلى أزمتها فتعالجها لتخرج منها، وتساهم بنصيبها في تقدم البشرية ونموها.

الأرقام الصادرة عن منظمة اليونسكو والبنك الدولي وغيرها من المنظمات المعنية بخصوص الحالة العلمية العربية، تشير إلى فجوة أعمق من أن يجسدها مجهود أو نشاط فردي أو مؤقت أو غير مؤسسي. وتلفت كذلك إلى أن مشكلات البحث العلمي ترتبط بتخلف الدول الحضاري والثقافي أكثر من كونها تعبيرا عن الفقر وقلة الدخل والموارد.

فالدول العشر الأولى في الإنفاق على البحث العلمي، استحوذت على نسبة 80% من حجم الإنفاق العالمي بما قيمته 1.7 تريليون دولار.

وكالعادة تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على سوق البحث والتطوير في العالم، فهي بمفردها تنفق ما يقارب 511 مليار دولار أي ما يوازي نسبة 27% من إجمالي الإنفاق العالمي، وهو ما يزيد بكثير عن إنفاق المائة دولة الأخيرة في قائمة اليونسكو مجتمعة. ويتركز 94% في المائة من براءات الاختراع التي تم الاعتراف بها دوليا في الولايات المتحدة.

وتشغل الولايات المتحدة ما يقارب 4295 باحثا سنويا لكل مليون نسمة، مقابل 1096 باحثا في الصين رغم تعداد سكانها الضخم.

وتأتي الصين في المرتبة الثانية بإنفاق ما يقارب 452 مليار دولار، ثم اليابان بنحو 170.51 مليار دولار في المرتبة الثالثة، وألمانيا في المرتبة الرابعة بما يقارب 109.80 مليار دولار،ثم كوريا الجنوبية التي تنفق 73.19 مليار دولار سنويا. وتكمل فرنسا، والهند، والمملكة المتحدة، والبرازيل، روسيا، بنسب إنفاق متقاربة، قائمة الدول العشر الأولى في قائمة اليونسكو.

ويلفت التقرير إلى أن إسرائيل تتصدر قائمة أكثر خمس دول تنفق حصة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، هي: إسرائيل (4.7%) وكوريا الجنوبية (4.2%)، تليها سويسرا (3.4%)، والسويد (3.3%)، واليابان (3.1%).

إسرائيل التي تجاورنا وتنافسنا على خريطة المنطقة تنفق على البحث والتطوير المدني في مؤسسات التعليم العالي ما يوازي 30.6 في المائة من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله، إضافة إلى أن المؤسسات التجارية والصناعية تنفق ضعفي ما تنفقه الحكومة الإسرائيلية على التعليم العالي.

وطبقًا للمعايير الدولية، فإن (إسرائيل) تحتل المرتبة الأولى في علوم الكمبيوتر، والمرتبة الثالثة في الكيمياء، والمركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. وقياسا إلى عدد سكانها ومساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.‏ ولكن ماذا عن إنفاق عالمنا العربي على البحث العلمي والابتكار والاختراعات؟

الأرقام تشير إلى أزمة ضخمة، والمؤسسات الدولية تحذر من أن تداعيات تلك الأزمة على التقدم العلمي والصناعي في الدول العربية ستكون، أو أصبحت بالفعل كارثية.

فنسبة الإنفاق المحلي الإجمالي للدول العربية كلها على البحث العلمي، لم تبلغ واحدًا في المائة من الناتج القومي لتلك الدول، وينفق معظمها على الرواتب والمكافآت والبدلات وغيرها.

تصدرت السعودية المركز الأول عربيا والـ 42عالميا في معدل الإنفاق على البحث العلمي والتطوير بقيمة 12.513 مليار دولار. وتلتها مصر 6.116 مليار دولار. ثم الإمارات 4.250 مليار دولار، والمغرب بـ 1.484 مليار دولار، وقطر بـ 1.280 مليار دولار، والكويت بـ 832 مليون دولار وتونس بـ 828 مليون دولار وعمان بـ 337 مليون دولار، والأردن بـ 263 مليون دولار، والجزائر بـ 241 مليون دولار.

أي أن نحو 400 مليون نسمة هم عدد سكان الدول العربية أنفقوا أقل من 30 مليار دولار على البحث العلمي.

بل إن المعضلة الكبرى أن إنتاجية عشرة باحثين عرب تعادل إنتاجية باحث واحد في المتوسط الدولي. وهو ما يشير إلى أن مشكلتنا في الكم والنوع.

ويؤكد البنك الدولي أن هناك 380 باحثا لكل مليون إنسان عربي، بينما تبلغ النسبة حوالي 4000 باحث لكل مليون إنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، و 3598 باحثا لكل مليون شخص في الدول المتقدمة، ومن ضمنها إسرائيل،وهو ما يؤكد أن نسبة عدد الباحثين في العالم العربي هي الأدنى عالميا وإنسانيا.

إن إنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجية يشكل عصب التقدم الحضاري، وما لم تنتبه الأمة العربية إلى مأزقها التاريخي في هذا المجال،وتواجه التحديات والمعوقات التكنولوجية، فإنها معرضة جديا للوقوع فريسة لاستعمار من نوع جديد، استعمار أهم أسلحته للسيطرة على مقدرات الشعوب، العلم والتكنولوجيا والمعرفة والاختراعات والابتكارات.

فثمة تحديات ومعوقات ومشكلات لابد من مجابهتها بشكل عاجل حتى نستعيد أمجادنا وتاريخنا العلمي العريق، ويتركز معظمها في: ضعف الميزانية المخصصة فعليا للبحث العلمي والتطوير، وليس للرواتب والمكافآت، وسيطرة النزعة الفردية و الأمنية على مجالات البحث التي تحتاج إلى الحرية التامة والعمل بروح الفريق، وعدم التوسع في الأبحاث التنظيرية المقدمة للحصول على درجات علمية أو ترقيات بالجامعات والمؤسسات العلمية، والتي لا تتناول مشكلات حقيقية، ولا تعالج أوضاعا اجتماعية، والأهم توفير حياة كريمة وبيئة علمية وإنسانية مناسبة لعلمائنا وباحثينا الذين يتركون معاملهم في بلادهم ويهاجرون إلى الغرب، فرارا من البيروقراطية والشللية وسيطرة الجهلاء على مقدرات البحث العلمي والتطوير،وهو ما أصبح يشكل نزيفا خطيرا للعقول العربية التي شاركت في نهضة الغرب العلمية والتكنولوجية. فحسب إحصائية لاتحاد المصريين في الخارج، فإن مصر وحدها قدمت للغرب وأمريكا وبقية دول العالم أكثر من 86 ألف عالم، وهناك أكثر من 850 ألف خبير وعالم في العلوم التطبيقية موزعين على أرجاء المعمورة،منهم 1250 عالما في التخصصات النادرة نسبيا مثل الهندسة الوراثية وفيزياء الفضاء والنانو والهندسة الوراثية والرياضيات، ويتركز وجود الجزء الأكبر من هؤلاء العلماء في أمريكا. ونتج عن ذلك النزيف للعقول العربية خسارة مادية بلغت نحو 200 مليار دولار، نصيب مصر منها تجاوز الـ50 مليار دولار، بحسب تقرير رسمي صادر عن جامعة الدول العربية. لابد من التحرك عربيا وعبر جامعة الدول العربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تركلنا الحضارة والمدنية خارج التاريخ.