الملف السياسي

البحث العالمي وطريق ريادة الابتكار

16 ديسمبر 2019
16 ديسمبر 2019

إميل أمين -

هل البحث العلمي في حاضرات أيامنا فرض أم نافلة؟

أغلب الظن أن الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة بات محسوما، لا سيما في زمن تجاوزت فيه الاختراعات والمنتجات زمن الثورة الصناعية الثالثة، وخطت بنا بأقدام ثابتة في عالم الثورة الصناعية الرابعة، الأمر الذي يجعل من قضية البحث العلمي مسألة حياة ووجود، وليست قضية ترف أو رفاهية.

عدة أسئلة تطرح ذاتها بذاتها في سياق هذه القراءة بعضها موصول بالإطار العالمي، والآخر بعالمنا العربي وأوضاع العلم والعلماء فيه، وكذلك مسألة الأبحاث العلمية والموازنات المحددة لإشكاليات هذا البحث عبر دول الأمم المتقدمة منها والمتأخرة.

يمكن للقارئ الباحث القطع بأنه ما من أمة من الأمم أحرزت تقدما على صعيد عالمها الخاص اقتصاديا كان أو عسكريا، إلا من خلال توافر العلوم والمعرفة، وهي العملة الجديدة، التي تفوق البنكنوت والذهب، فقد أصبح الاستثمار في البشر أكثر استدامة من نظيره في الحجر.

ولعل بعض الأمثلة الغربية والشرقية تبين لنا الأثر الخلاق الذي يفعله البحث العلمي والإنفاق عليه في الأمم والشعوب، وأوضح مثال على ما نتحدث عنه هو الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر مسألة البحث العلمي فيها قضية حياتية، ومسألة وجود، وقد عرف الأمريكيون فضل ذلك البحث في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية العام 1945 غداة انكسار جيوش النازية، وسقوط ألمانيا، وساعتها استقطبت الولايات المتحدة الأمريكية جل علماء ألمانيا، وقد كان لهؤلاء السبق في تطوير الصناعات الأمريكية المدنية والعسكرية.

انطلق البرنامج الصاروخي الأمريكي على قاعدة من الأبحاث العلمية التي طورها العلماء الألمان، وغني عن القول إن برنامج القنبلة النووية الأمريكية، هو نتاج لأبحاث العالم الألماني اوبنهايمر، ولاحقا بعد عقدين من الزمن كان الأمريكيون عبر صواريخ الألمان، وما تركوه عليها من لمساتهم وبصماتهم ينطلقون إلى القمر وما كان لتجري به المقادير من غير دوائر بحث علمية قادرة على الانطلاق في أعلى عليين.

ولتبيان أهمية مسألة البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال نشير إلى بعض النقاشات التي جرت السنوات الماضية حول زيادة أو نقص الموازنات المخصصة للبحث العلمي في الدولة التي تعتبر الرائدة عالميا على كافة الأصعدة.

قبل نحو عامين صدر في الداخل الأمريكي تقرير يحمل عنوان «مستقبل مؤجل: تراجع الاستثمار في مجال البحث العلمي يهدد الابتكار الأمريكي بالعجز».

والشاهد أن ما ذهب إليه أصحاب هذا التقرير هو أن تقليص الإنفاق على مجالات البحث العلمي الأساسية يؤدي إلى تعطيل التقدم في 15 ميدانا تتعلق بإنقاذ حياة البشر بدءا من الإنسان الآلي وطاقة الاندماج النووي وانتهاء بمرض الزهايمر وقطاع الزراعة.

يقارن الأمريكيون اليوم بين الاهتمام بالبحث العلمي الذي كان في نصف القرن العشرين الأول، وبين الوضع الحالي، ففي الزمن الأول قامت الحكومة الأمريكية بالاستثمار على نطاق غير مسبوق في أبحاث العلوم والهندسة، واستمر الاستثمار على هذه الوتيرة طوال فترة الحرب الباردة مع حلف وارسو، غير انه بانتهاء تلك المواجهة لم يعد الاهتمام بمسألة البحث العلمي كما كان الحال من قبل، الأمر الذي دعا عالم الفيزياء الأمريكي الشهير «مارك كاستنر» الى القول:«إن التمويل المطلوب للبحث العلمي في داخل البلاد قد بلغ أدنى حد له منذ الحرب العالمية الثانية، ضمن الميزانية الاتحادية، وهذا يهدد بالفعل مستقبل أمريكا».

يعن لنا التساؤل التالي: ما الرابط بين إشكالية الاستثمار في البحث العلمي وأحوال الثورة الصناعية الرابعة؟

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد أبعاد تلك الثورة التي تثير الكثير من القلاقل عند البشر من جراء إمكانيات واحتمالات الاستغناء عن العنصر البشري لصالح الآلة، لكن على الجانب الآخر لا يمكن لأحد أن ينكر أن المزيد من الاستثمار في البحث العلمي، يعني وبكل تأكيد المزيد من الوسائل التي تيسر من حياة الإنسان عبر المخترعات العلمية الجديدة، سواء منها ما يتعلق بصحة الإنسان ومكافحته للأمراض، أو ما هو موصول بطرق انتقاله حول الكرة الأرضية، وصولا إلى ارتياده الفضاء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أضحت البشرية اليوم غير قادرة على الاستغناء عن شبكة المعلومات العنكبوتية او الإنترنت ولو في صورتها الأولية الحالية، فيما وعن قريب ستدخل البشر زمن ما يعرف بإنترنت الأشياء وليس أجهزة الحاسوب فقط.. ماذا يعني ذلك ؟

باختصار غير مخل سوف يتمكن الإنسان من إدارة وترتيب شؤون حياته في المنزل والمصنع والعمل، في نومه وصحوه عبر شبكة معلوماتية موصولة بكل شيء يستخدمه الإنسان، فعلى سبيل المثال انت لن تضحي مرغما على النزول من بيتك لتسخين محرك سيارتك، اذ ستقوم الآلة بفعل ذلك تلقائيا عند ساعة معينة من الصباح كما تمت برمجتها.

الثلاجة التي في منزلك سوف تغير درجة حرارتها تلقائيا وفقا أحوال الطقس الخارجي، أما الموقد فيستطيع تسخين الأكل الذي تتطلع لتناوله قبل أن تصل إلى منزلك بثوان معدودة.

وعندما يتعلق الأمر بمجالي البيئة والتنمية المستدامة، فانه يمكن للأجهزة القائمة على تقنية إنترنت الأشياء بما في ذلك أجهزة الاستشعار، أن تساعد بشكل كبير على الحد من تلوث الهواء.

هل من أمثلة تطبيقية جرت بها المقادير بالفعل في الأعوام الماضية تمثل حصاد الاستثمار في البحث العلمي ؟ على القارئ أن يشد الرحال الى إسبانيا، حيث يجد إنترنت الأشياء قد ضمن إنارة آمنة للشوارع والدروب والحارات في برشلونة، ففي الوقت الحاضر باتت تلك المدينة تعرف بمدينة «الواي فاي»، نظرا لارتباطها ببرنامج منصة تحليل البيانات وأجهزة الاستشعار، لذلك يساعد هذا الأمر على الإضاءة الآلية للشوارع، والري من خلال التحكم عن بعد، وتكنولوجيا المياه الذكية، فضلا عن مواقف السيارات الذكية التي تعمل بالتحكم عن بعد، وطرق الحافلات الرقمية وغيرها.

ولعل قائل يقول وماذا عن الشق الثاني من هذا الطرح، أي عن الاستثمار في البحث العلمي في عالمنا العربي ؟.

يمكن الجواب بالإشارة الى مرحلتين، الأولى كانت في صدر الحضارة العربية، والثانية في الوقت الراهن. اما الأولى فقد كانت مرحلة زمنية زاهرة رائدة، وضعت فيها دولة الخلافة أمام العلماء كافة الإمكانيات التي تسهل لهم الانطلاقة في فضاءات الكون، ولهذا ملؤوا العالم باختراعاتهم ومنجزاتهم التي غيرت مجرى التاريخ، ويكفي استحضار قصة الساعة الرملية التي أرسلها هارون الرشيد الى الإمبراطور الألماني، واعتبر الأخير أنها مسكونة بالأرواح والعفاريت ولهذا تصدر أصواتا بعينها، من دون ان يدري انها نتاج بحث علمي وصل اليه العرب.

والثابت ان مقارنة أحوال البحث العلمي في ذلك الوقت بما هو حاصل الآن لن يصب بحال من الأحوال في صالح زمننا المعاصر، فقد بدت مسألة الاهتمام بالبحث العلمي في الحواضن العربية مؤجلة أو متأخرة بكثير عما سبق أو بالمقارنة ببقية أرجاء الكرة الأرضية.

ولعل الناظر الى تقارير منظمة اليونسكو الاعوام الاخيرة الخاصة بارقام ومستويات الاستثمار في البحث العلمي يدرك عمق الأزمة العربية، اذ يجيء العالم العربي في مرتبة متدنية للغاية في هذا الاطار، في حين أن الاتحاد الأوروبي لديه خطة بانفاق 3% من الناتج المحلي الاجمالي لدعم البحث والتطوير بحلول عام 2020، وأن كانت الارقام توضح لنا ان دولتين من دول الاتحاد وصلتا الى هذا الهدف وهما السويد التي تصل نسبة الاستثمار فيها في مجال البحث العلمي الى 3.3% من ناتجها القومي الإجمالي، والنمسا بنسبة 3.1 %.

السؤال الواجب طرحه هنا هل هناك شكوك ذهنية في مردودات عملية الاستثمار في البحث العلمي، ولهذا يخاف البعض في عالمنا العربي من تكثيف جهود الاستثمار في هذا الاطار؟

في مايو الماضي شهدت جامعة القاهرة مؤتمرا حول «المردود الاقتصادي للاستثمار العلمي والابتكار»، وقد كان الهدف الرئيس من المؤتمر تقييم وقياس الآثار المباشرة وغير المباشرة للاستثمار في البحث العلمي والتطوير والابتكار ومساهمة تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتطوير الأساليب التحليلية والقياسية، والنماذج الكمية المستخدمة في قياس هذه الاثار.

ومن دون الإغراق في تفاصيل المؤتمر ونتائجه يمكننا الإشارة الى أن أهم قراءة صدرت عنه توضح أن كل دولار يستثمر في البحث العلمي، يعود بفائدة قدرها 3.9 دولار على المجال المستثمر فيه.

ما المجالات التي يمكن للاستثمار في البحث العلمي أن يغير من خلالها واقع ومستقبل العالم العربي؟

الشاهد أن المجالات عريضة وواسعة وتبدأ من عند البحوث الطبية، وأهدافها المختلفة كالسعي للوقاية من الأمراض المتنوعة لاسيما العضالة واكتشاف أنواع جديدة من الأدوية القادرة على مكافحة الأمراض المتوطنة، وهناك مجال البيئة حيث باتت الأزمة الايكولوجية مهدد رئيس حول العالم، والبحث العلمي يمكنه ان يخفف من وطأة ثورة الطبيعة كمساعدة الحكومات في تنقية الهواء، وتخفيض درجات الحرارة.

البحث العلمي في عالمنا العربي يقودنا من دون أدنى شك الى سبل الطاقة النظيفة وفي المقدمة منها الطاقة الشمسية الكفيلة بتغيير وجه المنطقة العربية، وتصدير الفائض الى العالم الخارجي.

الاستثمار في البحث العلمي يعني فتح مساقات ومسارات أمام اقتصاد الابتكار، من خلال تمكين الطلاب من متابعة اهتماماتهم البحثية من خلال مجموعة من المنح والزمالات وفرص التمويل المقدمة من جامعاتهم او من خلال البرامج البحثية.

ما الذي يعوق الاستثمار في البحث العلمي في عالمنا العربي؟

ربما عدم اعطاء السياسات العلمية للبحث والابتكار دورا مهما في الخطط التنموية والاجتماعية للبلدان العربية، وضعف الإنتاج العلمي العربي وتحويله الى منتجات ذات قيمة مضافة للتنمية الاقتصادية.

السؤال الأهم قبل الختام: «هل مسالة الاستثمار في البحث العلمي تتعلق بالحكومات فقط أم أن المجال أوسع وأعرض من ذلك بكثير؟

اذا نظرنا بعين متانية لتقارير اليونسكو المختلفة، نجد ان الشركات المختلفة والمؤسسات الاجتماعية، والهيئات المدنية الغربية كلها باتت روافد رئيسية في زخم مسالة البحث العلمي، وبحيث لا يبقى الأمر متصلا بالمجال الحكومي على أهميته، ما يجعلنا نعيد التفكير عربيا في مسالة دعم الاستثمار في البحث العلمي الخلاصة... تعني مسألة البحث العلمي بالمستقبل، ومن غير هذا الاستثمار الخلاق يبقى الأفق المستقبلي التنويري مغلقا وحالة الانسداد التاريخي مستمرة.