أفكار وآراء

ما بين العام والخاص ثمة قضية غير معلنة

15 ديسمبر 2019
15 ديسمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

إنَّ صورة التحليق بآمال العامة وبطموحاتهم التي يروج لها؛ وبصورة خاصة؛ المقبلون على الترشح، سواء هذا الترشح للرئاسة، أو للبرلمان، أو لأي منصب لا بد أن يمر عبر صندوق الاقتراع، تحولت هذه الصورة إلى صورةٍ نمطيةٍ مملةٍ، وتولدت لدى الجماهير قناعات بأن كل ذلك يندرج تحت خطاب «الديماغوجي» وهو الخطاب الذي يتاجر بالمصالح العامة لصالح الخاص فقط، فطموحات الأفراد تكسرها مثل هذه التأطيرات الخاصة، ولا تجد متنفسها الواسع للنمو والانتشاء،

لا توجد إشكالية كبيرة في التفريق بين المفهوم والمصطلح في شأن تحديد العام والخاص، فكلاهما معروفان، ومستوعبان من قبل الفهم العام في ثقافة المجتمع، والفرد في المجتمع الواحد على قدر كبير من سعة المعرفة في هذا الاتجاه، ولذلك هو يمارس حقه، أو واجبه في شأن العلاقة القائمة بين العام والخاص، وهو مدرك شديد الإدراك لما يقوم به، وبالتالي عندما يصل الأمر إلى محاسبته في حالة الإساءة، أو الإغراق المطلق في الممارسة في كليهما، فلا يوجد عنده عذر في تجاوز الفهم والتفريق بين المصطلح والمفهوم، فكل فرد في المجتمع يعي تمامًا العلاقة بين العام والخاص، وتبدو هذه الصورة أكثر وضوحًا كلما قطع الإنسان عمرًا بيولوجيًا، ومعرفيًا، حيث يبدأ حينها في التفريق بين العام والخاص، فحالات الطفل الذي يستحوذ على ألعاب الأطفال عندما يزورهم في بيوتهم -بصحبة والديه- تبدأ هذه الغريزة في التراجع بعد عمر معين؛ لأنه أصبح يدرك أن هناك حدًا فاصلًا بين ما هو له، وما هو للآخرين، ولذلك هو يقاتل قتالًا شديدًا على ألعابه عندما يأتي الأطفال إلى بيته، دون أن يستوعب؛ ولو على سبيل المجاملة؛ أن هؤلاء ضيوف عنده في تلك اللحظة الزمنية القصيرة.

يقول المفكر والكاتب التونسي الدكتور منصف المرزوقي في كتابه (من الخراب إلى التأسيس) ما نصه: «إن الشخص الذي يفهم على الصعيد الذهني الارتباط الوثيق ما بين الشأن الخاص والشأن العام، هو الشخص الواعي في علاقته بالآخرين أن حقوقهم واجباته، وأن حقوقه واجباتهم، أن حريته تنتهي أين تبدأ حرية الآخرين، وعلى الصعيد العملي هو الشخص الملتزم بمشاكل المجموعة التي ينتمي إليها، أي كانت طبيعة ومستوى هذه المشاكل، والعمل على إيجاد حلول لها ترفع في الوقت نفسه من قيمته الشخصية، ومن قيمة المجموعة التي يدافع عنها» –انتهى النص– وحالة الطفل التي تحدثنا عنها، يفترض أن تتأصل لدى الفرد الواعي، وأن تكون الرؤية عنده أكثر وضوحا، كلما قطع شوطا من العمر، ومن الوعي هذه العلاقة الشديدة التعقيد، واصفها بـ«شديدة التعقيد»؛ لأن الواقع الإنساني؛ في كثير من ممارسات أفراده؛ لا يعبر عن هذه الصورة بتجلياتها الآمنة، وإنما تأتي ممارسات الأفراد مناقضة، وشديدة التقاطعات، حتى لا يحسب الواحد منا أن كل ما هو أمامه، هو ملكية خاصة، وأن الآخرين من حوله، لا يشتركون معه في أي نقطة تلاقي، وكأنك ترى الشأن العام هو استثناء من القاعدة، حتى في وجود المجموع، وهذه إشكالية موضوعية في فهم العلاقة القائمة بين العام والخاص، والصورة في استمرارها -وفق هذا الواقع- تظل مربكة لجميع الحسابات: الثقافية، الوعي العام، والمصالح المشتركة، ومجموعة العلاقات القائمة بين الناس الاجتماعية وغير الاجتماعية.

يقتضي الأمر في شأن العلاقة بين العام والخاص، وجود حالتين متناقضتين: الحالة الأولى تمثلها الـ«شبكة» وهي التي يتعاون فيها كل الأطراف، وهي ما يندرج تحتها عناوين كثيرة؛ منها: التعاون، التآزر، التلاحم، التكامل، التضحية، المبادرة، حيث تذوب جميع الفروقات وتنصهر في بوتقة واحدة يجمعها الفهم العام الشامل، وتعبر عنها الوحدة، حيث لا يوجد جهد منفرد يحسب لفرد ما، فقط، ليحصل على امتيازات معينة، وهو ما ينقله من الخاص إلى العام، ويكون العام حينها في أعلى مستويات العطاء، وقد يحسب لأفراد المجتمع حينها الوصول إلى درجة المثالية، وقد يتحقق هذا الأمر بصورة نسبية في مجالات العمل المختلفة، ولعل ما يشير إليه الكاتب فرانشيسكو خافييير كاريللو في كتابه (مدن المعرفة) المداخل والخبرات والرؤى «مترجم» ما نصه: «إن شبكة شراكة إقليم المدينة مع ذوي الصلة من الحكومة والجمهور والقطاع الخاص لها أثر إيجابي في المجالات المهمة للبنية التحتية الاقتصادية الاجتماعية للمدينة» -انتهى النص- ما يشير إلى فهم الـ«شبكة».

أما الحالة الثانية فيمثلها الـ«هرم» وهو المعروف عنه بترتيبتها، وتعقيداتها الهيكلية، فهناك قمة الهرم، ومنه تتسلسل بقية المسؤوليات، كحال الإدارة الأسري -على سبيل المثال- حيث تبدأ الصورة الهرمية بالأب؛ وهو غالبًا رب الأسرة، ثم تأتي الأم، في المسؤولية الثانية، ثم الولد الأكبر أو البنت الكبرى، وهكذا تتسلسل المسؤوليات، وهذه الحالة معرضة إما للتماهي وضياع الجهد المتكامل، أو وجود الجهد غير المتكامل، أو الناقص؛ لأن كل فرد ينهي مرحلته في الأداء، ويبقى الأداء غير مكتمل، وحتى تكتمل المنظومة في إنجازها العام، كم سيكون من الوقت، وكم سيكون من الجهد المتواتر، وقس على ذلك مجموعة من الفراغات الفنية التي تصاحب كل هذه الخطوات.

قد يطرح تساؤل هنا -حول مكونات المجتمع- وهنا لا نخص مجتمعًا بعينه، فهذه حالة إنسانية متجذرة؛ وهو هل لأن قياس أو فهم المكون الاجتماعي يلعب دورًا محوريًا في شأن العام والخاص، بمعنى أن المجتمع يتكون من مجموعة من التكتلات؛ قد يصل في تكتلها إلى مستوى «الجزر المعزولة» تلعب فيها عدة عوامل، يأتي في مقدمتها الدين، والمذاهب، والأعراق، والنخب على اتساع مفاهيمها، والوجاهات الاجتماعية، والمناصب الوظيفية، وكل واحدة من هذه المفاهيم تأخذ طابعًا خاصًا، وقد تتكتل على ذواتها، فتنفصل على الجهد العام، فتمثل حجر عثرة لهذا العام، وبالتالي فبدلا أن تدعم الجهد العام، تنكفئ على خاصتها، وتعمل على تأصيله، وتقوية أركانه، ولو اقتضى الأمر الدخول في دوائر السياقات الأخرى للمكونات الأخرى، المهم أن تعزز وجودها كمكون مهم في المجتمع، وما عدا ذلك فـ«ليذهب الجميع إلى الجحيم» ولعل كل دول العالم؛ إلا الاستثناء، وهذا الاستثناء تنظمه العلاقة القائمة بين الأفراد وإيمانهم بالقانون الحاكم بينهما؛ تعيش هذه الحالة غير المرضي عنها بالطبع.

يقول الباحث العراقي حيدر مثنى محمد المعتصم في دراسته التي حملت عنوان (قوة السلطة التشريعية): «أما فيما يخص القوى الفاعلة في معظم بلدان العالم نجد إضافة إلى أعضاء السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، أن هناك ممثلي الجماعات الضاغطة التي تسعى للضغط على صانعي القرار بصورة أو بأخرى من أجل تحقيق مصالح الأعضاء المنتمين إليها.

وهناك أيضًا الأحزاب السياسية الفاعلة في النظام السياسي غير تلك الممثلة في البرلمان، إضافة إلى كبار رجال الإدارة من التكنوقراط. فكل هذه الجهات لها دور حيوي سواء أكبر أم صغر في عملية صنع القرار» - انتهى النص - وإذا كان الباحث هنا يذهب إلى صنع القرار العام، فإنه حتى في صنع هذا القرار العام، هناك ثمة فراغات تتيح للخاص أن يكون له موضع قدم، فالانكفاء على «تحقيق مصالح الأعضاء المنتمين إليها» يدخل ضمن الإطار الخاص المطلق، ويحرم العام من كثير من المصالح التي يفترض أن تحقق المزيد من القيم المضافة في مشروعه التنموي، الذي يأتي خيره، وأكله للجميع، وليس لفئات بعينها تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة في الإطار العام، بكل سهولة ويسر، أو تحت غطاء رسمي معلن، ومبارك من الجميع.

السؤال الآخر الذي يمكن طرحه في هذه المناقشة، هو: لماذا تسود حالة من الاحتقان لدى أفراد المجتمع، وهو احتقان لا يكاد ينقطع مع كل مراحل التنمية؛ وهي حالة معايشة في كل المجتمعات؛ وكأن التنمية تتقاطع مع مصالح العامة، ولا تتكامل معها؟

والغريب في الأمر -أيضًا- أن من يعيش هذا الاحتقان هو نفسه مشارك في مشروعات التنمية؟

ويكون التعليل أن صورة التحليق بآمال العامة وبطموحاتهم التي يروج لها؛ وبصورة خاصة؛ المقبلون على الترشح، سواء هذا الترشح للرئاسة، أو للبرلمان، أو لأي منصب لا بد أن يمر عبر صندوق الاقتراع، تحولت هذه الصورة إلى صورة نمطية مملة، وتولدت لدى الجماهير قناعات بأن كل ذلك يندرج تحت خطاب «الديماغوجي» وهو الخطاب الذي يتاجر بالمصالح العامة لصالح الخاص فقط، فطموحات الأفراد تكسرها مثل هذه التأطيرات الخاصة، ولا تجد متنفسها الواسع للنمو والانتشاء، ومن هنا تتلبس الأفراد حال الاحتقان هذه، حيث تنعدم عندهم الرؤية نحو أفق أكثر اتساعًا لتحقيق الطموحات لمستوى شموليتها العامة، وبالتالي تظل تعيش حالتها الخاصة، حتى وإن ألبست بشيء من المظاهر العامة يبقى مردودها خاصًا بحتًا، وهذا ما يؤزم العلاقة ويعقدها في العلاقة القائمة بين العام والخاص.