1395392
1395392
المنوعات

مرفأ قراءة.. «اللغة العربية عبر القرون».. بحث لغة الضاد معرفيا!

14 ديسمبر 2019
14 ديسمبر 2019

إيهاب الملاح -

(1)

بوفاة المرحوم الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي (1940-2019) الذي رحل عن عالمنا فجر الأربعاء الماضي، تفقد الثقافة العربية المعاصرة، وبيئات الدرس العلمي اللغوي الرصين، والجامعات العربية والعالمية، والمجامع اللغوية المؤسسية، واحدًا من أشهر وأنبغ من تخصصوا في الدرس اللغوي الحديث، وفي التراث اللغوي العربي والعالمي، وفي اللغة العربية وثقافتها وأدبها.

وتزامن رحيل عميد علم اللغة العربية، واللغويات الحديثة، في الجامعات العربية والعالمية، قبل أيام من الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية (14 ديسمبر من كل عام) وقد كان من كبار العارفين بها والدارسين لها والناشرين لثقافتها عبر عشرات من الكتب والبحوث باللغة العربية واللغات الأجنبية، فضلًا على المشاركة الفعالة في وضع مناهج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في أنحاء متفرقة من العالم وخاصة في دول آسيا الوسطى.

وكان رحمه الله لا يفتأ الترديد أن «اللغة العربية من حيث عدد المتحدثين بها، كلغة أولى أو ثانية، تحتل المركز الخامس بين لغات العالم، وهذا موقع متقدم جدًا»، لكنه وفي الوقت ذاته كان يؤكد أن الإنتاج العلمي المكتوب باللغة العربية في حاجة لأن يضاعف عدة مرات، وكان يقول «للأسف فإن السلوك اللغوي الاجتماعي داخل البلاد العربية مضطرب للغاية، فهناك كثيرون يتخيلون أن هناك اختيارًا بين أن يعرف الإنسان اللغة العربية، وأن يعرف لغة أجنبية أخرى. وهذا الاختيار غير وارد على الإطلاق».

ويدلل، رحمه الله، على خطأ هذا التصور بقوله «أنا عشت أكثر من نصف عمري خارج البلاد العربية، تعلمت أكثر سنوات حياتي في ألمانيا، وطه حسين له إنتاج علمي نعرفه بالعربية، وله أيضا إنتاج علمي نعرفه بالفرنسية. الإنسان المعاصر في مصر والبلاد العربية يحتاج في المقام الأول، إذا كان يحترم نفسه، وإذا كان يتعامل بالاحترام اللائق مع تكوينه الشخصي وهويته الثقافية والاجتماعية، أن يتقن لغته العربية الأم».

(2)

ومن المفارقات العجيبة، أن أول كتاب أصدره المرحوم الدكتور محمود فهمي حجازي، في مستهل حياته العلمية والأكاديمية، هو كتاب «اللغة العربية عبر القرون» الذي صدر في سلسلة المكتبة الثقافية بالقاهرة عام 1968، العدد 197، وهو كتيب صغير الحجم (يقع في 88 صفحة من قطع الجيب) وكان نواة مركزة لأعمال ومؤلفات الدكتور حجازي التي ظهرت عن «علم اللغة العربية»، والدرس اللغوي لها، والتي ستصير بدورها من أهم ما كتب في اللغة العربية عن «اللغة العربية» بذاتها ولذاتها.

وستتضح في هذا الكتيب أبرز خصائص الكتابة العلمية المنهجية للراحل الكبير، ففيه سيتجلى عرض الفكرة الشاملة المستقصية لموضوعه رغم وجازة البحث وتكثيفه، وفيه سيتجلى العرض العلمي البسيط المستوعب الخالي من التعقيدات والنتوءات المصطلحية والمفاهيمية وستتبدى العبارة الشارحة الكاشفة المتجلية بذاتها دون عسر أو التواء أو تعقيد، وكل ذلك مع تبويب وتصنيف غاية في الدقة والإحكام والترابط والتماسك.

كانت هذه الدراسة بتعبير مؤلفها «محاولة متواضعة لرسم القسمات البارزة في تاريخ اللغة العربية، في رحلتها الحافلة عبر القرون، وعرض موجز لهذا الموضوع الممتع الزاخر بالصعاب المنهجية والقضايا العلمية، وفيها ثغرات وجوانب قصور تعكس قلة البحوث الجزئية في الموضوعات قيد البحث، ولكني آمل أن يجد فيها القارئ الكريم ما ينشده من الفكرة الشاملة، والعرض العلمي البسيط».

وأستطيع القول دون ادعاء إن «اللغة العربية عبر القرون»، رغم صغر حجمه، هو البحث العلمي الأكثر اكتمالًا وشمولًا وسعة عن اللغة العربية؛ باعتبارها لغة حية ضمن منظومات اللغات الحية على وجه الكرة الأرضية، وسيضع المرحوم حجازي في هذا الكتاب الصغير بذور بحثه الواسع المعمق عن الموضوعات والقضايا التي سيتوسع في درسها بعد ذلك، والإحاطة العلمية والمنهجية بتفاصيلها في كتبه التالية؛ وعلى رأسها «علم اللغة العربية»، و«علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة»، و«مدخل إلى علم اللغة» و«البحث اللغوي»، وغيرها مما صار من الكتب المراجع التي لا غنى عنها ليس فقط لطلاب البحث اللغوي في الجامعات، إنما أيضًا للمثقف العام المهتم باللغة العربية، وعلم اللغة العام.

(3)

بحسب الترجمة التي أعدها مجمع اللغة العربية بالقاهرة عنه (مجمعيون في 75 عامًا)، فإن الدكتور محمود فهمي حجازي، لغوي ومترجم، وهو شيخ الدراسات اللغوية الحديثة في الجامعات المصرية والعربية والأجنبية، وأحد كبار المترجمين في الثقافة العربية. وُلد بالمنصورة وتلقى بها تعليمه الابتدائي بمدرستها الأميرية، ثم بمدرسة الملك الكامل الثانوية. حصل على الليسانس الممتازة في الآداب من كلية الآداب جامعة القاهرة 1958، وكان أول فرقته وأصغر خريجيها. حرص في أثناء دراسته على تعلم اللغات الأجنبية، وكان يتابع مقررات قسم اللغة الألمانية بمدرسة الألسن التابعة آنذاك لوزارة التعليم العالي حتى أتقنها.

عُين معيدًا بكلية الآداب 1959م بقسم اللغة العربية. وأُوفد إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه، وعلى مدى خمس سنوات درس مقررات لغوية في علم اللغة، وفي الدراسات المقارنة، وفي الآداب الشرقية والأوربية. نال درجة الدكتوراه من جامعة ميونخ عام 1965 وكانت في: «منهج التحليل اللغوي لدى السيرافي» التي كتبها بالألمانية. وعاد إلى كلية الآداب، وتدرج في مراتبها الأكاديمية مدرسًا 1965، فأستاذًا مساعدًا 1972، فأستاذًا 1978. دُعي غير مرة أستاذًا زائرًا بجامعات أوربية في ألمانيا والمجر وهولندا وفرنسا، وبجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وبالجامعة الأمريكية بالقاهرة. عُين وكيلاً لكلية الآداب للدراسات العليا والبحوث بجامعة القاهرة من 1989 إلى 1994م. وعُين كذلك رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (1994 - 1997م).

عُين رئيسُا لجامعة (نور مبارك) بكازخستان من 2001 إلى 2014م. كان عضوًا في هيئات علمية وثقافية دولية وعربية، منها مجمع اللغة العربية بدمشق منذ عام 1994م، واتحاد الكتاب منذ 1985م، والمجمع العلمي المصري 1995م. من أشهر مؤلفاته:

«منهج السيرافي في التحليل اللغوي» (باللغة الألمانية)، و«اللغة العربية عبر القرون»، و«علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة»، و«علم اللغة العربية»، و«مدخل إلى علم اللغة»، و«الأسس اللغوية لعلم المصطلح»، و«تحديد المصطلح»، و«اللغة العربية في العصر الحديث»، و«أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي»، و«طه حسين ـ دراسة ومختارات».. وأشرف على وترجم أكثر من عشرين مجلدًا، منها «تاريخ الأدب العربي» لبروكلمان، و«تاريخ التراث العربي» لفؤاد سزكين.

وله جهد ملموس في التخطيط وتنفيذ المشروعات في إطار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفي المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بماليزيا. اختير خبيرًا بمجمع اللغة العربية منذ عام 1975م، ثم انتُخب عضوًا به عام 1999م.

نال وسام الاستحقاق الاتحادي من الطبقة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية لعام 1977م، وجائزة جامعة القاهرة التقديرية في العلوم الإنسانية 1998م، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1998م، والدكتوراه الفخرية بدرجة أستاذ من جامعة اللغات العالمية في كازاخستان ووسام رئيس جمهورية كازخستان 2013.