أفكار وآراء

الناتو.. إلى وحدة ولكن على وقع الانقسام!!

14 ديسمبر 2019
14 ديسمبر 2019

د. عبد العاطي محمد -

في الذكرى السبعين لتأسيسه، وعلى عكس ما كان متوقعا، فاجأ المجتمعون في قمة الناتو المنعقدة في لندن مؤخرا المراقبين ببيان مقتضب ركزت كلماته فقط على أن أعضاءه التسعة والعشرين مهتمون الآن باستعادة وحدة الحلف، لا بحل المشكلات القائمة.

وترجع المفاجأة إلى أنه في ضوء الشواهد العديدة على حالة الانقسام الفريدة التي يمر بها الحلف العتيق منذ تأسيسه عام 1949، كانت كل الأنظار تتجه إلى أن يتعرض البيان الختامي لآخر المستجدات في الخلافات الحادة التي يتعرض لها الحلف وتهدد بقاءه، وكيفية معالجتها وهو ما لم يحدث.

ولأول وهلة يبدو الاهتمام بوحدة الحلف أمرا منطقيا وطبيعيا، بالنظر إلى أن القمة في حد ذاتها كان لها طابع احتفالي مهم هو الذكرى السبعون لتأسيس الحلف، مما يفترض أن يركز الأعضاء على إظهار الروح التضامنية التي تحفظ للحلف استقراره ودوره مهما كانت شدة الانقسامات. ولكن حتى بهذا المقياس كان من المفترض أن يجعل الأعضاء من المناسبة فرصة للحوار والاتفاق بخصوص كل التطورات السلبية التي تعرض لها الحلف على الأقل في السنوات الثلاث الأخيرة منذ وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى سدة الحكم، وخلالها فجر الرجل الكثير من المواقف الخلافية مع بقية الأعضاء خصوصا الكبار فيهم مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.

واقع الأمر ما كان لقادة الدول التسع والعشرين أن يتعمدوا إخفاء هذه الخلافات ويكتفوا ببيان يعيد الأمل في استعادة الحلف لمكانته الدولية، بل وفي نظر الشعوب الغربية ذاتها التي لطالما اعتبرته تحالفا قويا يوفر لها الأمن والسلام والرفاهية أيضا. فمن تابع التطورات السابقة مباشرة لانعقاد قمة لندن، وكذلك المتعلقة بفترة الانعقاد القصيرة، يستطيع بسهولة رصد المناخ السياسي المشحون بعلامات الانقسام والصدام المسبق بين أبرز الدول الأعضاء والأهم بين قياداتهم. فعلى صعيد مواقف الدول كانت هناك بعض المشكلات الكفيلة بتفجير العلاقات داخل الحلف.

لقد تجددت مشكلة تمويل ميزانية الحلف، عندما حرصت الولايات المتحدة على تذكير بقية الأعضاء بأنهم لا يلتزمون بدفع مساهماتهم المالية كما ينبغي وفقا لما هو متفق عليه في وثائق الحلف. ووفقا للقواعد من المفترض أن تدفع كل دولة ما نسبته 2% من الناتج المحلي لصالح ميزانية الحلف، ولكن دون الولايات المتحدة لا يدفع أى من الأعضاء هذه النسبة، وهناك خلافات كبيرة بين واشنطن والعواصم الأوروبية بخصوص هذه القضية، وتتباين أرقام المليارات من الدولارات التي تدفعها كل منها سنويا، ويحرص الرئيس ترامب دائما على إعلان أن بلاده تدفع الجزء الأضخم في الميزانية وتطالب الآخرين بالالتزام دون جدوى.

وقد انعكست هذه المشكلة بالسلب على العلاقات بين الكبار عموما سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية.

ولم تكن مشكلة التمويل هي الوحيدة التي عكرت الأجواء، وإنما طفت على السطح مشكلات أخرى عمقت الجراح، فقد أدلى الرئيس الفرنسي ماكرون بتصريح كان أشبه بالقنبلة السياسية عندما وصف الحالة الراهنة للحلف بأنها بمثابة السكتة الدماغية أو الموت الدماغي في إشارة منه إلى أن الحلف وصل إلى مرحلة الجمود ولم تعد له جدوى. ودخل ماكرون في ملاسنة حادة مع الرئيس التركي رجب أردوغان الذي استنكر هذا التصريح ووجه كلاما للرئيس ماكرون اعتبره قصر الإليزيه إهانة لفرنسا كلها. وأما الرئيس الأمريكي فقد اعترض بشدة على تشخيص ماكرون لحالة الحلف، ونصحه بأن يحسن أوضاع بلاده الاقتصادية ولا يجعل من تهكمه على الحلف مخرجا له أمام شعبه من الضائقة الاقتصادية.

وعلى صعيد آخر كانت أنقرة وسياساتها الخارجية موضوعا للجدل الساخن الذي عكر الأجواء.

ففرنسا لم تقبل التدخل التركي المسلح في شمال سوريا ورأت أنه تم بعيدا عن استشارة الأعضاء وهى في مقدمتهم مما يعد خروجا عن مبادئ الحلف. ولكن تركيا فعلت ذلك بموافقة أمريكية غير مباشرة، في ضوء انسحاب القوات الأمريكية من تلك المنطقة وتخليها عن قوات الأكراد، وهو ما اعتبرته فرنسا دليلا على أن الحلف لم يعد يدار وفقا لقواعده المتفق عليها.

وإذا أضيف إلى ذلك توجه تركيا لشراء صفقة الصواريخ أس أس 400 الروسية لاتضح إلى أي حد أصبح بعض الأعضاء يتصرف بشكل منفرد وعلى عكس تقاليد وتوجهات الحلف. ومن جهة أخرى، تفجرت مشكلة بين تركيا واليونان حول استغلال مياه البحر المتوسط في التنقيب عن النفط والغاز، مع أنهما عضوان في الحلف!.

وحتى خلال القمة لم يخف الكبار خلافاتهم، بل تعمد بعضهم أن يتصرف إعلاميا بما يحرج البعض الآخر أو يلقي عليه اللوم. وكان تسريب فيديو قصير جمع ماكرون وجونسون ورئيس وزراء كندا تضمن بعض الاستنكار من جانب الأخير لمواقف وسلوك الرئيس الأمريكي عموما (ما يشبه اتهامه بتصريف أعمال القمة كما يريد )، كان مؤشرا على تردي العلاقات بين بعض القادة الكبار.

كانت هذه المشكلات وغيرها كثير في أجندة العلاقات بين أعضاء الحلف كفيلة بأن تجعل قمتهم، وهم يحتفلون بالذكرى السبعين لتأسيسه، موعدا لإعلان وفاته حقا، وليس لتجديد دمائه وإظهاره بالتحالف القوى وسط عالم تتلاقفه الأمواج العاتية.

ولكن ما حدث هو تنبه كل الأعضاء لخطر الاستمرار على الانقسام وفك عرى الحلف العتيد، فوضعوا كل ما سبق من مشكلات جانبا، ولم يصدر ما يشير علنا أنهم تجاذبوا أطراف الحديث في هكذا ملفات. هذا لا يعني أنهم لم يظهروا الاهتمام بها، ولكنه يشير إلى أنهم يعترفون بوجودها ويدركون مخاطرها ولكنهم لم يتوصلوا إلى الإستراتيجية الصحيحة للتغلب عليها، ولذلك ستستمر على حالها بعض الزمن، وبالمقابل رأوا أن الأهم الآن هو التأكيد على وحدة الحلف خاصة في ظل تحذيرات كبار مسؤوليه بأنه مقبل على كارثة.

ومن المؤكد أن وضعا كهذا يجعل الحلف مشلولا في القيام بدوره وفقا لقواعد تأسيسه، ولكن التوقف عند الأسباب الجوهرية التي جعلته في هذا الوضع يمكن أن طريقا لاستعادة دوره في ثوب جديد يتفق مع التطورات الفاصلة التي غيرت قواعد النظام الدولي إلى حد كبير.

الأسباب ثلاثة، وهي أولا التناقضات الناجمة عن تضارب السياسات بين الأعضاء تجاه الأزمات الإقليمية والدولية، وثانيا تباين المصالح إلى حد الطابع العدائي لا التنافسي، وثالثا عدم تحديد عقيدة الحلف في ضوء التغيرات الجوهرية التي هزت العالم المعاصر في عناصر القوة الصلبة والناعمة على السواء.

من أمثلة التناقضات أن تلجأ بعض الأعضاء للمواقف الانفرادية الحادة التي تتناقض مع مبادئ الحلف ولا يتم تسوية منازعاتها سلميا، هكذا تصرفت تركيا فيما يتعلق بلجوئها إلى روسيا لتقوية دفاعاتها مع أن ذلك يمثل خطرا على تسليح دول الحلف الأخرى، في وقت كان بالإمكان تسوية مطالبها من الولايات المتحدة دون الاضطرار لطرق أبواب موسكو، وما عطل الأمر هو الخلافات السياسية مع واشنطن.

أيضا أن تغض الولايات المتحدة النظر عن التدخل التركي في شمال سوريا وعلى غير مصلحة حلفائها الأكراد الذين قاتلوا لجانبها ضد «داعش»، هو من التضارب في سياسة البلد الواحد العضو. كما أنه من المعروف أن فرنسا لها موقف مختلف عن موقف واشنطن فيما يتعلق بالأزمة السورية وخصوصا من حيث التدخل العسكري.

ومن الدلائل أيضا على تناقضات المواقف أن الناتو ذاته أقام لونا من التعاون مع روسيا بعد انهيار حلف وارسو، وكم كان ملفتا وجود قنوات للتعاون برغم التدخل الروسي في أوكرانيا. ومع أن واشنطن فرضت عقوبات اقتصادية على موسكو ردا على ذلك، إلا أن دول الحلف الأوروبية حافظت على تعاونها الوثيق معها ولم تحذ حذو واشنطن.

وأما بخصوص تضارب المصالح فالمؤشرات عليها لا تحتاج إلى بيان، فهي قائمة بين كبار العواصم الأوروبية وبين واشنطن (في ظل إدارة ترامب). ولو تم تفعيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فمن المؤكد أن أوضاع الحلف عسكريا وماليا لن تكون بنفس الحال في ظل البقاء، والملفت أن إدارة ترامب تدعم فكرة الخروج!.

ولعل الموقف من إيران يعد مثالا على التناقضات وتضارب المصالح في نفس الوقت، فالدول الأوروبية لم تتقبل قرار ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع طهران لأنها كانت شريكة في التوصل إليه، ومع فرض العقوبات تضررت مصالح هذه الدول مع إيران. يضاف إلى ذلك أن العلاقة جيدة للغاية بين طهران وأنقرة مع أن الأخيرة عضو مهم في الناتو وهي حريصة على تدعيم علاقاتها بها حتى لو أغضب ذلك الولايات المتحدة، هنا التضامن في المواقف مفقود بين أعضاء الخلف.

العامل الثالث هو الارتباك في تحديد عقيدة الحلف، لقد تأسس عام 1949 لصد ما اعتبرته أوروبا ثم الولايات المتحدة تهديدا لها من جانب الاتحاد السوفيتي السابق، وبناء عليه كانت العقيدة هي الدفاع عن أوروبا ضد ما يمكن اعتباره تهديدا سوفيتيا. ومع تفكك الاتحاد السوفيتي 1991 وحل حلف وارسو في نفس العام، لم تعد هذه العقيدة قائمة، وتغيرت إلى تعزيز الأمن الأوروبي في حد ذاته وبوجه عام. ولكن ظل البحث عن «العدو» كمبرر لأي عقيدة عسكرية جديدة غامضا، وقد كان ذلك من الأسباب التي جعلت حماسة أوروبا للناتو تتراجع.

وعليه فإن تأكيد قمة لندن على أهمية الوحدة يفترض عزم الأعضاء على تجاوز هذه الإشكاليات الثلاث، ولكنها ستكون وحدة على وقع الانقسام لأنه يحتاج إلى زمن وجهد طويلين.