أفكار وآراء

الناتو وآسيا.. ملامح حرب باردة جديدة

13 ديسمبر 2019
13 ديسمبر 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

هل هو قدر مقدور في زمن منظور أن يعيش العالم ونحن على أعتاب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حربا باردة جديدة تذكر بتلك التي عرفها الجميع طوال أربعة عقود في أواخر القرن العشرين؟

يمكن القطع بأن هناك إرهاصات مزعجة في هذا السياق وان كانت تختلف بعض الشيء عما جرت به المقادير في القرن الماضي، ذلك انه وقتها كان الصراع محتدما بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والاتحاد السوفييتي من جهة ثانية، ووقتها لم تكن الصين قطبا قائما أو قادما، بل ربما كانت تحاول أن تجد لها موقعا أو موضعا على الخارطة العالمية، وهذا ما تنبه له الجانب الأمريكي، وعليه فقد وجهت الدبلوماسية الأمريكية في أوائل السبعينات جهودها من أجل بلورة علاقات أمريكية - صينية متميزة، بهدف لا يخفى على أحد وهو المكايدة السياسية للسوفييت.

لعب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في ذلك الوقت دورا فاعلا في هذا الإطار، وعبر ما عرف بدبلوماسية البنج بونج، تلك الرياضة الشهيرة، وتاليا بدأت المسارات تنفتح والمساقات تتواصل بين الجانبين الأمريكي والصيني وبقي الاتحاد السوفييتي في حالة من العزلة والإقصاء.

على أن الحرب الباردة التي نتحدث عنها اليوم، تكاد ترتسم في الأفاق من منظور سياسي أخر مكونا من ثلاثة أقطاب، روسيا والصين في جانب، والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في جانب آخر، ويمكن بصورة أو بأخرى أن نضيف إليهما اليابان والتي لا يسعدها الصعود القطبي للصين على هذا النحو المتسارع، ولا يطمئنها عودة روسيا من جديد قوة قادرة بل وقاهرة في الأفق العالمي....

ما الذي استدعى هذا الطرح الجديد القديم مرة أخرى؟

مؤكد أن ما جرى في قمة لندن الأخيرة قد أعاد مسار المخاوف من صراع بارد جديد، لا سيما بعد أن أصدر قادة الحلف بيانا ختاميا مشتركا اكدوا فيه «تضامنهم ووحدتهم»، رغم خلافات حول الإنفاق والاستراتيجية استبقت قمتهم.

وضع الأطلسيون خلافاتهم جانبا وبدا أن هناك تحديات اشمل واعم تواجههم تتمثل في القوة الصينية الصاعدة من جهة، والبرامج العسكرية الروسية غير المسبوقة حتى في زمن الحرب الباردة الأولى من جهة أخرى.

بيان القمة الأطلسية الختامي يؤكد على أن الحلف مصمم على أن يظل نوويا طالما توجد أسلحة نووية، ويحمي مصالحه بمزيج مناسب من القدرات الدفاعية النووية والتقليدية والصاروخية «البيان يلفت الانتباه إلى أن روسيا قد بلغت في الأعوام الأخيرة حدا مخيفا من الصواريخ النووية العابرة للقارات مثل صاروخ «توبول» و«سارامات»، ناهيك على الأسلحة الصاروخية الفرط صوتية، والتي هي في الأصل جزء من برامج صاروخية فضائية باتت تقلب الموازين الدولية عسكريا واستراتيجيا.

يذكر الإعلان صراحة «نتصدى وسنواصل التصدي بطريقة محسوبة ومسؤولة لنشر روسيا لصواريخ جديدة متوسطة المدى، والتي أدت إلى القضاء على معاهدة التخلص من الصواريخ متوسطة المدى، مما يشكل مخاطرة كبيرة على الأمن الأوروبي الأطلسي».

والشاهد أن نص بيان قمة الناتو الأخير يجعلنا نطرح السؤال المتقدم موضوع هذا المقال وإن بصورة مغايرة، أي هل نحن إزاء اشتعال المعركة من جديد بين الغرب وروسيا؟

يلفت الانتباه في سياق توصيف العلاقة الأوروبية الآسيوية وبالذات الألمانية الفرنسية مع روسيا أول الأمر أننا شاهدنا اقترابا سريع الخطى بين ثلاثي الكبار، بوتين وماكرون، وميركل، وبدا وكأن زمن تحقق رغبة قلب رئيس فرنسا الأشهر شارل ديجول في طريقها للتحقق.. ماذا عن تلك الرغبة؟ باختصار غير مخل، لقد حلم الرجل الكبير وباني الجمهورية الفرنسية الخامسة بان تنشا «أوراسيا»، ذلك الحلم الجغرافي والديموغرافي، الذي ينطلق من حدود الأطلسي غربا إلى جبال الأورال شرقا، جامعا اكبر تجمع بشري وأوسع مساحة جغرافية حول الكرة الأرضية.

جاءت قمة الأطلسي الأخيرة لتصدم الكثيرين من المراقبين للمشهد الأوروبي الآسيوي، والتساؤل ما الذي عاد بالجميع إلى المربع رقم صفر مرة أخرى؟

احد افضل من يمكن أن يضيئ لنا في طريق البحث عن جواب لعلامة التساؤل المتقدمة «الكسندر رار»، عالم السياسة الدولية الألماني الأضل، والذي يذهب في تحليله إلى أن ما قامت به روسيا ضد أوكرانيا في 2013 قد سبب هلعا كبيرا للأوروبيين وجعل الجميع يتساءل:«هل يمكن لروسيا أن تزحف بدباباتها يوما ما تجاه أوروبا الغربية؟»

وإن فعلت ذلك فهل لدى الأوروبيين من القوة ما يمكن أن يوقفها أم أن الحاجة إلى الناتو هو أمر واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة؟

الشاهد أن أزمة أوكرانيا كانت هي في حقيقة الأمر جرس الإنذار للأوروبيين، ففي ذلك العام 2013 دخل الصراع على أوكرانيا بين روسيا والغرب مرحلة شديدة الخطورة، وكان الاتحاد الأوروبي يتفهم أن سياسته في عقد شراكات مع دول الجوار الشرقي قد فشلت. فالهدف الرئيسي – أوكرانيا لا تبذل جهدا في سبيل التقرب من الغرب والارتماء في أحضانه. في حين لا يرغب السياسيان مانويل باروسو رئيس المفوضية الأوروبية وقتها، وستيفان فيولي المفوض التشيكي في ترك منصبيهما دون انجاز عمل يخلد ذكراهما، حيث أرادا أن يقوما وبأي ثمن بتمهيد الطريق لتحقيق توسع مستقبلي للاتحاد الأوروبي.

أصبحت أوكرانيا ضحية لرغبة الغرب في اقتطاعها من روسيا، وكانت في حاجة إلى القوى الخارجية التي تستطيع تحقيق الاستقرار فيها. كان نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كبيرا في غرب ووسط أوكرانيا. أما روسيا فقد كانت تسيطر على الجنوب والشرق الأوكرانيين.

في تلك اللحظة بدا الزمن يعود إلى الوراء، وذكريات دخول الدبابات السوفييتية العام 1968 المجر تترأى أمام أعين العالم شرقا وغربا. كان من الممكن حل الأزمة الأوكرانية التي طال أمدها والاتفاق على حل وسط يقضي بان تقوم أوكرانيا بالتحول من حكومة مركزية إلى كيان فيدرالي يكون للأقاليم علاقاتها الاقتصادية والثقافية المستقلة مع روسيا والغرب. كان من شأن ذلك أن يخفف من حدة الوضع.

غير انه في 2014 قامت روسيا بالعديد من العمليات العسكرية في الأراضي الأوكرانية، بعد احتجاجات الميدان الأوروبي وعزل الرئيس الأوكراني فكتور يانوكوفيتش.

قام الجنود الروس بالسيطرة على مواقع استراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم، ومن بعد أعلنت روسيا رسميا ضم القرم إلى سيادتها، بعد الاستفتاء الذي جرى هناك، حيث صوت سكان القرم لصالح الانضمام لروسيا الاتحادية.

تاليا تصاعدت مظاهرات مؤيدة لروسيا من قبل جماعات انفصالية في دونباس، مما أدى إلى حدوث صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية والجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا. وفي شهر أغسطس عبرت المدرعات الروسية حدود دونيتسك من عدة مواقع، واعتبر توغل الجيش الروسي مسؤولا عن هزيمة القوات الأوكرانية في بداية سبتمبر.

اختلفت الصورة استراتيجيا وبعمق، ما يعني أن ما جرى طوال الأعوام الخمسة الماضية بين روسيا الاتحادية وبين دول الاتحاد الأوروبي لم يكن سوى محاولة تجنب الصراع القادم من جديد لا محالة. السؤال هنا هل الأوروبيون أبرياء تماما، والروس هم دائما المذنبون؟

الثابت انه إذا قلنا إن الناتو وأعضاءه ملائكة بأجنحة فإننا نتجاوز الحقيقة، ذلك أن خطط الحلف للتوسع شرقا وصولا إلى بولندا الملاصقة لروسيا، ومن ثم نشر صواريخ نووية على الحدود، أمر لا يمكن لروسيا أن تقبل به بحال من الأحوال، ما يعني أنه يمكن للعالم أن يصحو من نومه ذات يوم ليرى سيناريو المجر يتكرر مرة جديدة في وارسو مثلا، وكأن الأوروبيين لم يتعلموا من درس أوكرانيا القريب.

ماذا عن الصين والتي بدا بدورها المشهد يتغير بنسبة 360 درجة، بمعنى أن المتابع والمراقب لشكل العلاقات بين الأوروبيين والصينيين كان يخيل إليه أنها بلغت مرتبة عالية جدا من التعاون الخلاق اقتصاديا وتجاريا، بل وصل المشهد ببعض الدول الأوروبية مثل الجمهورية الإيطالية أن تفضل علاقات اقتصادية ومالية قوية مع الصين، حتى لو اغضب ذلك بعض الدول الأوروبية والتي باتت تعتبر إيطاليا كعب أخيل بالنسبة للصين في عموم أوروبا.

لكن الجانب الآخر الذي تفتح أوروبا أعينها عليه فيما يخص العلاقة مع الصين موصول برغبتها في التمدد الذي يتبدى اقتصاديا اليوم وعسكريا في الغد.

ترفض الصين الدخول في أي اتفاقيات لمنع انتشار الأسلحة النووية لا سيما الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى والتي تهدد أوروبا قبل أمريكا بنوع خاص، وأكثر من ذلك يميل بعض الثقات في شأن الصين إلى أن كافة مشاريعها المعولمة مثل طريق الحرير الجديد، ليست إلا تموضع سياسي وعسكري برداء مالي وتحت ذرائع التعاون التجاري، وهي خطوات معروفة لدارسي التاريخ عادة ما تستهل بها الامبراطوريات خطواتها الأولى، انطلاقا من أن الشعوب تمشي على بطونها وليس الجيوش فقط.

يراقب الأوروبيون اليوم تنامي الإنفاق الصيني على التسليح، وحين تبدأ الصين بناء حاملات الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية، ساعتها يعلم الجميع أن الصين تبدو تهديدا مسلحا قريبا، ويزداد الخوف من المستقبل بالنسبة للأوروبيين حين تظهر الشراكات الصينية - الروسية، على صعيد التنسيق الأمني حول العالم.

لا يحتاج المرء لان يشير إلى ما تقوم به واشنطن لإذكاء المخاوف الأوروبية من الصين وروسيا، فالعلاقة بين واشنطن وبكين بنوع خاص تتعزز فيها المخاوف يوما تلو الآخر لا سيما في ظل المناورات العسكرية والبرامج الدفاعية الصينية، حتى حين تكون هذه المناورات والبرامج طبيعية، أي مؤلفة من تدابير يتخذها أي بلد على نحو معقول دفاعا عن المصلحة الوطنية كما هي مفهومة عموما ويجري تفسيرها في ضوء السيناريوهات الأكثر سوءا.

وبقراءة أكثر عمقا فإن واشنطن ترى صعود التنين الصيني مهددا لإرثها وعلاقاتها الاستراتيجية في آسيا لا سيما مع اليابان وكوريا الجنوبية، والإشكالية الكبرى تتأتى من دعم واشنطن لتايوان، أما المواجهة العسكرية التي يمكن أن تأتي بها المقادير فمردها بحر الصين الجنوبي. هل يعني ما تقدم أن قمة لندن أحيت عظام الناتو والتي كانت قد تيبست؟

يمكن القطع بأن ذلك كذلك، فيما بقية فصول المشهد تأتي تباعا.