المنوعات

متـاهـات العامـيـة والـتـرجمـة بسـبـعـة أرواح!

13 ديسمبر 2019
13 ديسمبر 2019

الشربيني عاشور -

في تقديمه لمجموعة يوسف إدريس القصصية «جمهورية فرحات» طلب طه حسين من يوسف إدريس «أن يرفق باللغة العربية الفصحى، ويبسط سلطانها شيئًا ما على نفسه»؛ فقد رأى طه حسين أن إدريس «مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر».

واعتبر طه حسين أن الشباب من الأدباء يخطئون «حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن ينطِقوا الناس في الكتب بما تجري به ألسنتهم في أحاديث الشوارع والأندية». أمَّا تبريره لهذا الطلب فكان أن «أخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع من الحياة درجات دون أن يقصر في أدائه وتصويره»، وأن « الأديب الحق ليس مسجلًا لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونغراف».

ولم يكتف طه حسين بذلك التبرير، فقد وضع بصمته الساخرة عليه، فقال: «وإلا فما يمنع الكاتب أن يصطنع لنفسه أداة من هذه الأدوات التي تسجل ألفاظ الناس ثم يضيف إلى أصواتهم صوته بلغتهم التي يتكلم بها هو حين يتحدث إليهم، ثم يعرض عليهم ذلك كما يعرض تسجيل الأصوات لا يتهيأ له ولا ي تألق فيه».

من المؤكد أن يوسف إدريس لم يأخذ بكلام طه حسين كما هو واضح فيما كتبه من قصص وروايات بعد ذلك. وعلى طريقة إدريس مشى كتَّاب قصة ورواية كثيرون، بحجة واقعية اللغة والشخصيات التي تتكلمها، وأنه ليس من الواقع أن يتكلم رجل أو امرأة من العامة بلغة عربية فصحى في حوار قصصي أو روائي. على الرغم من أن أبسط رجل أو امرأة من عامة العرب في أزمنة عربية سابقة كانا يتكلمان بالفصحى بأبلغ مما يكتب به هؤلاء المحتجون من الكتَّاب أنفسهم! أي أن الأمر لم يكن مستحيلًا، ولن يكون مستحيلًا. وعلى الرغم كذلك من أن كتَّابًا آخرين، ـ وإن كانوا قلة ـ كتبوا أعمالهم بمستوى من الفصحى لم يحل دون التمتع بأعمالهم الأدبية ورواجها، بل إنه زادها تفردًا وعلوَّ شأن، وما نجيب محفوظ إلا مثال على ذلك. وهو نفسه عندما سئل عن استخدامه للفصحى في الحوار بين شخصياته الروائية أجاب بأن العمل الأدبي في الأساس يقوم على الإيهام بالواقع، وإذا كنا نقبل العمل الأدبي على الإيهام بالواقع، فلماذا لا نقبل الحوار بالفصحى من باب الإيهام أيضًا؟

على أية حال، ليست هذه هي القضية الآن، فالقضية هي دخول المترجمين على خط ترجمة الحوارات في الروايات الأجنبية بالعامية أيضًا! وما رواية «الصبي سارق الفجل» للكاتب الصيني «مو يان» التي صدرت ترجمتها العربية إلا مثال على ذلك، فقد ترجمت الحوارات بين الشخصيات فيها بالعامية، بل بالعامية المبتذلة. وهو أمر مؤسف ومضحك معًا، أن تجد صينيًا يقول كما في هذه الرواية: «شفت بقه إننا بنعرف نشتغل من غير الأسطى الخرفان بتاعنا ده». أو أن يقول صيني آخر: «ايه رأيك في البت أم شال وردي، آه من غرورك يا ملعون أقرع ونزهي». وهكذا يتواصل الحوار بعامية ـ لن يسمح قانون المطبوعات والنشر بكتابتها هنا ـ وهي «لغة» أبعد ما يكون عن الأدب!

والمشكلة أكبر من ذلك، بل هي مشكلات، فالترجمة بهذا الشكل لا يمكن أن تعطيك إحساسًا بأنك تقرأ أدبًا صينيًا مترجمًا، ولكنها تجعلك تقرأ عملا ضحلًا بعامية الشوارع. أو «تسجيل الفونغراف» كما وصفها طه حسين. والترجمة بهذا الشكل تدخل في متاهات العاميات التي إن دخلتها فلن تخرج منها سالمة؛ فبأي عامية سنترجم؟ فالعاميات في البلد الواحد أكثر من الهم على القلب. وكل بلد فيه عاميات ترتبط بمناطق دون غيرها، وتحتوي ألفاظًا يصعب حتى على أبناء البلد الواحد فهمها. ثم ماذا لو انتشر هذا النوع من الترجمة في العالم العربي، فجرت ترجمة الرواية الواحدة في أكثر من دولة وبعاميات هذه الدول، هل ستكون لدينا رواية ذات روح واحدة، أم ستكون لدينا رواية بعدِّة أرواح مثل القطط؛ مرَّةً مصرية، وأخرى لبنانية، وثالثة عراقية... إلخ. ليس ذلك فحسب فعلى المستوى التسويقي للأدب أيضًا، تحد الترجمة بالعامية من انتشار الكتاب في الدول العربية، فالمسألة من الناحية المادية خاسرة للكاتب الذي يسعى إلى توسيع رقعة قرائه. وخاسرة للناشر الذي يريد للكتاب أن ينتشر ويحقق أرباحًا.

ويبقى السؤال: ماذا لو أن طه حسين قدر له أن يعيش إلى يومنا هذا، فيرى مثل هذه الترجمات، وأن فصحاه التي عرف، تئن الآن منها، كما تئن من أعمال يفترض أنها أدبية باتت تكتب كاملة بالعامية، بل وتحصد الجوائز الأدبية، وأن بعض كتب النحو أيضًا أصبح يُكتب بالعامية، وينشر في دور نشر تطبع كتب طه حسين نفسه أو توزعها؟!

لا شك أن الرجل الذي قيل إنه كان يستدفئ تحت الغطاء فألقى بغطائه إلى الأرض، وهو يستمع إلى محمد عبد الوهاب يغني قصيدة «الجندول» فيخطئ في غنائه «حين قابلته أول مرَّة» بنصب تاء الفاعل في (قابلتَه) بدلا من رفعها (قابلتُه). ثم يعود فيسحب الغطاء على نفسه آمنًا مطمئنًا، عندما يعيد عبد الوهاب الغناء مصححًا الخطأ. هذا الرجل لن يلقي بغطائه إلى الأرض هذه المرَّة، ولكنه سيلقي بنفسه من نافذة مكتبه!