555
555
تقارير

كيف ينتهـي الفقر ؟ !

12 ديسمبر 2019
12 ديسمبر 2019

أبهيجـــــيت بانرجـــي ـ إيثر دافـــلو -

ترجمة: أحمد شافعي -

تأملوا مسار الصين. لقد تخلص البلد حتى الآن من أسوأ أشكال سوء التخصيص فيه. وبحكمة أعاد استثمار مكتسبات النمو الناجم عن ذلك في استثمارات جديدة ومع تنامي النتاج، باع ذلك النتاج بالخارج منتفعًا من جوع العالم اللانهائي في ظاهر الأمر إلى الصادرات. ولكن هذه الاستراتيجية استنفدت نفسها إلى حد كبير هي الأخرى، فالصين الآن هي المصدِّر الأكبر في العالم، ولا يمكنها أن تستمر في تنمية صادراتها على نحو أسرع من نمو الاقتصاد العالمي.

ويظل بوسع الصين على سبيل الاحتمال أن تلحق بالولايات المتحدة في نسبة الإنتاج إلى كل نسمة، ولكن نموها المتباطئ يعني أنها سوف تستغرق وقتًا طويلًا. ولو انخفض النمو الصيني إلى خمسة في المائة سنويًا، وهو ليس بالأمر سهل التصديق، وبقي على ذلك، وهو ربما أمر لا يخلو من تفاؤل، ولو أن نمو الولايات المتحدة استمر في التحليق عند 1.5 في المائة، فسوف يستغرق لحاق الصين بالولايات المتحدة في نسبة الإنتاج لكل نسمة ما لا يقل عن 35 سنة. في الوقت نفسه يبدو منطقيًا للسلطات الصينية أن تقبل بأن النمو السريع مؤقت، وهو ما يبدو أنه حادث بالفعل. في 2014 تكلم الرئيس الصيني شي جينبينج عن التكيف مع «الوضع الطبيعي الجديد» الخاص بالنمو البطيء. وفسَّر الكثيرون معنى قوله بأنه على الرغم من أن أيام معدلات النمو السنوي المرتفعة «المؤلفة من عددين» قد مضت، فسوف يظل الاقتصاد الصيني يتوسع بنسبة 7% سنويا في المستقبل المنظور. ولكن حتى هذا قد يبدو إفراطا في التفاؤل. فصندوق النقد الدولي يتنبأ بأن نمو الصين سوف يدنو إلى 5.5% بحلول عام 2034. وتجري في الهند أحداث قصة مماثلة. ابتداء من قرابة عام 2002، شهد قطاع التصنيع في البلد تحسينات كبيرة في تخصيص الموارد. إذ سارعت المصانع إلى تحديث نفسها تكنولوجيا، وازداد تدفق رأس المال إلى أفضل الشركات في الصناعة. ولما بدا أن التحسينات منقطعة الصلة بأي تغير في السياسة، تكلم بعض علماء الاقتصاد عن «معجزة التصنيع الهندية الغامضة». لكنها لم تكن معجزة، بل مجرد تحسن متواضع انطلاقًا من نقطة بداية بائسة. وبوسع المرء أن يتخيل تفسيرات عديدة للتحسن. ربما حدث تحول جيلي، إذ انتقلت السيطرة على الشركات من الآباء إلى أبناء تعلم كثير منهم بالخارج وكانوا في الغالب أكثر طموحا ودراية بالتكنولوجيا والأسواق العالمية. أو ربما السبب هو تراكم أرباح متواضعة أمكن في النهاية استغلاها في دفع التحول إلى مصانع أكبر وأفضل. وبغض النظر عن السبب الدقيق، فإن أفضل فهم للصعود الاقتصادي في الهند هو أنه نتيجة تصحيح سوء التخصيص: أي نوع النمو الذي يمكن أن يتحقق من قطف ثمرة دانية.

 

هذا النوع من النمو لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فمع قيام الاقتصاد بتغيير أسوأ مصانعه وشركاته، تتقلص بصفة طبيعية المساحة المتاحة لمزيد من التحسينات. والهند اليوم تواجه في ما يبدو احتمال تباطؤ حاد. وقد خفَّض صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الآسيوي ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي تقديرات النمو للهند في 2019-2020 إلى قرابة 6%. وذهب غير أولئك إلى أن الاقتصاد الهندي بدأ يتباطأ بالفعل: إذ ذهب آرفيند سوبرامنيان ـ كبير استشاريين الاقتصاديين في نيوديلهي في الفترة من 2014 إلى 2018 ـ إلى أن التقديرات الرسمية تغالي في نمو البلد بنحو 2.5% في السنين الأخيرة. وفي حين يمكن أن يتعافى النمو في الهند، لكنه سوف يتباطأ إلى الأبد. والحق أنه يحتمل أن تقع الهند في «شرك الدخل المتوسط» المفزع والذي تبدأ عنده الاقتصادات سريعة النمو في التباطؤ. ولن تكون وحدها: فبحسب البنك الدولي، من بين 101 اقتصاد متوسط الدخل في عام 1960، لم ينتقل إلى الدخل المرتفع إلا بحلول عام 2008.

ومن سوء الحظ أنه مثلما يجهل الاقتصاد كيفية إحداث النمو، فإنه لا يعرف إلا القليل عما يجعل بلادا كثيرة -مثل المكسيك- تعلق في شرك الدخل المتوسط، خلافًا لبلاد أخرى مثل كوريا الجنوبية. وثمة خطر شديد الواقعية يتمثل في أنه عند محاولة الثبات على النمو السريع تنحرف البلاد التي تواجه التباطؤ الحاد في النمو الآن إلى سياسات تضر الفقراء باسم النمو المستقبلي. ففي ظل محاولة الحفاظ على النمو، تفهم دول كثيرة النصيحة بأن تكون صديقة للأعمال باعتبارها رخصة لاتباع جميع أنواع السياسات المناهضة للفقراء المحابية للأثرياء من قبيل تخفيض الضرائب على الأثرياء وحزم الإنقاذ للشركات.

وكذلك كان تفكير الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس رونالد ريجان وفي المملكة المتحدة في ظل حكم رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر. ولو أن لنا دليلا من أي من هذين البلدين، لعلمنا أن مطالبة الفقراء بشد الحزام على أمل أن يتساقط في النهاية من الأثرياء ما فيه نفعهم أمر لا نفع فيه للنمو ولا نفع فيه للفقراء: ففي كلا البلدين لم يزدد النمو على الإطلاق، ولكن التفاوت بلغ عنان السماء. عالميًا، الجماعة الوحيدة التي تحسنت أحوالها أكثر من نسبة الخمسين في المائة الدنيا بين 1980 و2016 هي جماعة الأثرياء في البلاد الثرية، فضلا عن عدد متزايد من شديدي الثراء في العالم النامي، فهذه الجماعة نالت نسبة مذهلة تصل إلى 27% من إجمالي النمو خلال تلك الفترة. أما جماعة الـ49% من الناس التي تأتي تحتهم، وتتضمن تقريبا جميع من في الولايات المتحدة وأوربا، فخسرت، وركدت دخولها خلال تلك الفترة.

إن انفجار التفاوت في الاقتصادات التي لم تعد تنمو لهو خبر سيئ للنمو المستقبلي. فالصدام السياسي يؤدي إلى انتخاب زعماء شعبويين يدعون إلى حلول إعجازية نادرا ما تفلح، وغالبا ما تفضي إلى كوارث على الطراز الفنزويلي. والعواقب ـ في البلاد الثرية ـ مشهودة بالفعل، من ارتفاع حواجز التبادل التجاري في الولايات المتحدة إلى أضرار البريكزت الوخيمة في المملكة المتحدة. حتى صندوق النقد الدولي ـ الذي اعتبر في يوم من الأيام حصنا لأورثوذكسية «النمو أولا» ـ بات يدرك أن التضحية بالفقراء لتعزيز النمو سياسة رديئة. وهو يشترط الآن على فرقه العاملة في البلاد المختلفة أن تأخذ التفاوت في الحسبان وهي تقدم نصائحها.

عيون على الجائزة

المرجح أن يتباطأ النمو، على الأقل في الصين والهند، ولا يكاد يوجد ما يمكن القيام به حيال هذا الأمر. قد يزداد في بلاد أخرى، لكن ليس بوسع أحد أن يتنبأ أين أو لماذا. والخبر السعيد هو أن ثمة سبلا لتحسين مؤشرات التقدم حتى في غياب النمو. ما يجب على صناع السياسة أن يتذكروه هو أن إجمالي الناتج الوطني وسيلة لا غاية، فما هو بغاية في ذاته. هو وسيلة نافعة ولا شك، لا سيما حين توجد وظائف أو ترفع الأجور أو تزيد الميزانيات فيتسنى للحكومات أن تزيد من إعادة التوزيع. لكن يبقى الهدف النهائي هو تحسين نوعية المعيشة، لا سيما للأسوأ أحوالًا.

ونوعية الحياة تعني أكثر من الاستهلاك. فبرغم أن الحياة الأفضل تعني جزئيا القدرة على المزيد من الاستهلاك، فإن أغلب البشر -حتى الفقراء منهم- يهتمون بما هو أكثر من ذلك. هم يريدون أن يشعروا بالقيمة والاحترام، بأن آباءهم أصحاء، وأبناءهم يتعلمون، وأن أصواتهم مسموعة، وأنهم يسعون إلى تحقيق أحلامهم. قد يساعد إجمالي الناتج الوطني الأكبر الفقراء على تحقيق كثير من هذه الأمور، ولكنه مجرد وسيلة واحدة لتحقيقها، وهي ليست أفضل الوسائل في كل الحالات. الحق أن نوعية الحياة تختلف اختلافًا هائلًا من بلد إلى بلد مع تماثل مستويات الدخل: فعلى سبيل المثال سريلانكا لها مثل ما لجواتيمالا تقريبًا من إجمالي الناتج الوطني لكل نسمة، لكنها تقل كثيرًا في معدلات وفيات الأمهات والرضع والأطفال.

مثل هذه الفوارق لا يجب أن تصيبنا بالدهشة. فحين نرجع النظر، يتضح لنا أن كثيرًا من النجاحات المهمة في العقود القليلة الماضية لم تكن نتيجة نمو اقتصادي بل نتيجة تركيز مباشر على تحسين نتاجات معينة، حتى في بلاد كانت شديدة الفقر وبقيت كذلك. إذ تراجع على سبيل المثال معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة تراجعًا كبيرًا في العالم كله، حتى في بعض البلاد شديدة الفقر التي لم تشهد اقتصاداتها نموا لافت السرعة. ويوعز فضل ذلك إلى تركيز صناع السياسات على رعاية حديثي الولادة، والتطعيم، والوقاية من الملاريا. ومثل ذلك النهج يمكن ويجب تطبيقه على أيٍّ من العوامل الأخرى التي تحسن نوعية الحياة، سواء أهو التعليم أم المهارات أم مبادرات الأعمال أم الصحة. يجب أن ينصبَّ التركيز على تحديد المشكلات المحورية والبحث عن كيفية حلها. وهذا عمل دؤوب: فإنفاق المال في ذاته لا يوفِّر بالضرورة تعليمًا حقيقيًا أو صحة جيدة. لكن خلافا للنمو، يعرف الخبراء بالضبط ما الذي يجب عمله لتحقيق التقدم. فمن المزايا الهائلة للتركيز على تدخلات محددة وواضحة أن هذه السياسات لها أهداف قابلة للقياس ومن ثم قابلة للتقييم المباشر. يمكن أن يجرب الباحثون فيها، ويتخلوا عن غير الصالح منها، ويحسِّنون من الصالح. هذا ما قضينا قسمًا كبيرًا من حياتنا العملية في عمله وما يفعله بصفة روتينية اليوم مئات الباحثين وصناع السياسات بمعاونة منظمات مثل معمل عبداللطيف جميل للتطبيقات العملية لمكافحة الفقر أو شبكة جيبالJ-PAL التي بدأناها في معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، ومجموعة مبادرات العمل ضد الفقر التي أسسها عالم الاقتصاد دين كرلان.

إذن، برغم أن المرء لا يعرف كيف يحول كينيا إلى كوريا الجنوبية، فبفضل عمل جيسيكا كوهين وبسكالين دوباس، بتنا نعرف تماما على سبيل المثال أن التوزيع الكثيف لشبكات الأسرّة المقاومة للبعوض هي أنجع طرق مكافحة الملاريا. ففي سلسلة من التجارب العشوائية، تبين لهذين الباحثين أن تحميل الناس تكاليف شبكات الأسرة -والذي كان يعتقد من قبل أنه السبيل إلى ترجيح استعمالها- قد قلّل استعمالها في الحقيقة، وهو الدليل الذي جعل منظمات تنموية كبرى في نهاية المطاف تتخلى عن فرض الرسوم. في ما بين 2014 و2016، وزعت في شتى أنحاء العالم قرابة 582 مليون شبكة مقاومة للبعوض، 75% منها ضمن حملات توزيع مجانية، الأمر الذي أنقذ عشرات ملايين الأرواح.

ما وراء النمو

الأساس في هذا هو أن المكونات الحقيقية للنمو الاقتصادي المتصل تبقى غامضة. ولكن من الممكن عمل الكثير للتخلص من أسوأ مصادر إهدار اقتصادات البلاد الفقيرة وأسباب معاناة شعوبها. فالأطفال الذين يموتون بأمراض تمكن الوقاية منها، والمدارس التي لا يحضر إليها المعلمون، والأنظمة القضائية التي تستغرق الدهر قبل أن تحكم في القضايا ـ تلك جميعا ولا شك تقلل الإنتاجية وتحيل الحياة إلى شقاء. وقد لا يدفع حل تلك المشكلات البلاد إلى النمو الأسرع الدائم، لكن بوسعه أن يحسن رفاهية مواطنيها تحسينًا أكيدًا.

فضلا عن ذلك، برغم أنه ما من أحد يعرف متى سوف تبدأ قاطرة النمو في بلد معين في الحركة، وما إذا كانت سوف تتحرك من الأساس، فالأرجح أن يثب الفقراء إلى القطار لو أنهم في صحة جيدة، قادرون على القراءة والكتابة، قادرون على التفكير في ما يتجاوز ظروفهم الملحة. قد لا تكون مصادفة أن كثيرًا من الظافرين في ظل العولمة هم بلاد شيوعية سابقة استثمرت بكثافة في رأس المال البشري من سكانها لأسباب أيديولوجية (مثل الصين وفييتنام) أو أماكن اتبعت سياسات مشابهة بسبب تهديدها بالشيوعية (مثل كوريا الجنوبية وتايوان). لذلك فإن أفضل ما يراهن عليه بلد نام مثل الهند هو السعي إلى رفع مستويات المعيشة بما لديه بالفعل من موارد: الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، وتحسين وظائف المحاكم والبنوك، وإنشاء طرق أفضل ومدن أكثر قابلية للحياة. والمنطق نفسه ينطبق على صناع السياسات في البلاد الثرية التي يجب أن تستثمر مباشرة في رفع مستويات المعيشة في البلاد الأشد فقرا. ففي ظل غياب إكسير سحري للتنمية، تصبح الطريقة المثلى لتغيير حياة الملايين هي عدم المحاولة العبثية لدفع النمو. هي التركيز بوضوح على الأمر الذي يفترض أن يحسِّنه النمو: صالح الفقراء.

كاتبا المقال هما الحاصلان على نوبل في الاقتصاد لعام 2019، والمقالة مأخوذة من كتابهما «اقتصاديات طيِّبة لأوقات عصيبة» [Good Economics for Hard Times ].

نشرت المقالة في 3 ديسمبر 2019 في فورين أفيرز