Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ: الحارات الـ«دولية»

10 ديسمبر 2019
10 ديسمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

سأتقيد هنا بمسمى «الحارة» وهو ذات المعنى الذي يشير إلى الحي السكني كمصطلح حديث وذلك فقط؛ للرجوع أكثر إلى ما كانت توحيه «الحارة» من علاقات اجتماعية كثر، أرخت للحياة الاجتماعية عندنا هنا في السلطنة، ربما كحال الحيوات الاجتماعية في بلدان كثيرة في العالم، الكثير من القيم، والمبادئ، ونظر إليها بالكثير من الاهتمام والرضا، وخاصة في ذلك الوقت الذي ازدهرت فيه «الحارة» كمكون إنساني شديد الأهمية، وشديد الحضور في الوجدان الاجتماعي عند كل فرد صغير وكبير، لا فرق، في ذلك.

تشكلت القرى العمانية -على وجه الخصوص- من حارات عديدة، فأقل ما يقال عن القرية إنها تحتوي على حارتين، وهناك قرى احتوت على حارات كثيرة، وفقا لعدد السكان المتحصل في ذلك الوقت، حيث لا تزال الأعداد السكانية قليلة قياسًا ببعض الحواضر المعدودة أيضا، وهي تضم حارات أكثر بالطبع، وأضفت هذه الحارات فيما بينها الكثير من الخصوصيات والمميزات، من حيث الاستحكامات الأمنية، ومجموعة من المرافق الخدمية، التي كان يتقدمها المسجد، ومدرسة القرآن الكريم، والسبلة العامة، وعادة ما كان فلج القرية يتوغل مزارعها بغض النظر على الفواصل الصغيرة التي كانت تفصل ما بين «الحارة» و«الحارة».

وبغض النظر عن التكوينات المادية التي كانت تميز كل حارة عن الأخرى، إلا أن مكونها الإنساني الجميل كان أجمل ما يكون، خاصة في ذلك الالتفاف الاجتماعي الرائع في مختلف المناسبات، وعلاقات القربى والنسب، وحالات المناكشات والتصادمات التي تحدث بين أبناء الحارات في بعض الأحيان؛ لاختلاف الآراء وسوء الفهم كذلك، وقد نظر إلى كل هذه التفاعلات الاجتماعية على أنها «ملح» لتبرئة الجروح التي قد تحدث ولا تدوم، وتوصف اليوم بـ«الأماكن القديمة قصص بلا لسان» حيث سكتت بأصحابها إلى أبد الآبدين.

عندما نستذكر قول قيس بن الملوح والملقب بمجنون ليلى:

«أمر على الديار ديار ليلى، أقبل ذا الجدار وذا الجدار،

وما حب الديار شغفن قلبي، ولكن حب من سكن الديار»

فإن الذكرى تكون متوهجة، ومربكة لسكون النفس، ذلك لأنها محملة بالكثير من الذكريات التي تنسل شيئًا فشيئًا من وجداننا بحكم مشاغلنا اليومية، ولكن ما إن تطأ أقدامنا حاراتنا القديمة في القرية، إلا وتعود لاهثة تبحث عن عناوين كثيرة، أرخت تلك السيرة لأولئك الرجال الذين صالوا وجالوا بين أزقتها وسككها، وسواقي حقول القرية الوادعة، حيث تظللها النخيل، كآخر عهد بتلك الأرواح التي سكنت أجسادها طبقات الأرض.

تأتي اليوم الحارات الـ«دولية» أو الأحياء السكنية الـ«دولية» لتتصادم مع الفهم السائد «للحارة» التي لا تزال تحتفظ بها ذاكرتنا، ففي هذه الحارات الـ«دولية» لن نجد قراباتنا الاجتماعية، ولن نجد مساجدنا، ومدارس قرآننا، ومجالسنا العامة نعم، سنجد فيها محلات ذات العلامات التجارية التي تروج لها العولمة، وسنجد فيها المطاعم بمسميات غريبة لم تألفها ذاكرتنا، سنجد أمام منازلها السيارات الفارهة، وسنصافح خارج أبوابها وجوهًا عابسة «غريبة» وقد توقعنا الصدفة بشخصية رسمية عامة نعرفها على المستوى العام، وقد تهرول إلى مركبتها أكثر من سرعة المركبة ذاتها ربما، خوف مصافحتها والتعرف عليها عن قرب، قد تتكسر الرؤية الأفقية فيها لتطاول مبانيها، وقد نتوه بين أزقتها الضيقة المتداخلة كرمزية «بيت جحا» وربما قد يعترينا الخوف والقلق مع عدم قدرتنا على الرجوع من حيث دخلنا، حيث المتاهات؛ فنعود إلى المعلم «جوجل» لكي يرشدنا إلى أقرب طريق عام، يعيدنا إلى من حيث أتينا، وعندما نترجل في أحد أسواق الحارات الـ«دولية» سنحتار بأي لغة نتحدث، فهناك لغات، ولهجات، ربما نسمعها للمرة الأولى، ولا يستبعد أن ننظر إلى «دشاديشنا» و«عمائمنا» التي نرتديها لنتأكد أننا لا زلنا على هويتنا التي نعرف.

لن أطيل كثيرا، ويكفي أن أترحم على حاراتنا القديمة التي طواها النسيان، هي الأخرى.