الملف السياسي

المسؤولية الجماعية .. دعوة وممارسة عمانية مبكرة !!

09 ديسمبر 2019
09 ديسمبر 2019

د. عبد الحميد الموافي -

إن جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله ورعاه - وجه كلمة الى مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية « قمة الأرض » التي عقدت في ريودي جانيرو بالبرازيل في 3 يونيو 1992 أكد فيها على « أن الحفاظ على البيئة مسؤولية جماعية لا تحدها الحدود السياسية للدول»

في ظل ما هو معروف من تداخل وتفاعل بين الغطاء الايكولوجي «أي النباتي» لكوكبنا وبين الغلاف الجوي له من ناحية ، وبين الإنسان وممارساته وبين مكونات البيئة المحيطة به من ناحية ثانية ، فإنه من الطبيعي أن تتسع وتتعمق عوامل التأثير المتبادل بين الإنسان وعناصر البيئة المحيطة به ، بما فيها الغلاف الجوي الذي تتصاعد إليه كل نتائج النشاط البشري على الأرض وفي المياه المحيطة بها ، وفي الجو أيضا . ولم يكن مصادفة على أي نحو ، ان يرتفع صوت الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش، أمام قمة المناخ التي عقدت في نيويورك في سبتمبر الماضي ، محذرا من أن العقد الحالي هو أكثر العقود حرارة على الإطلاق ، منذ أن بدأت عملية تسجيل درجات الحرارة بشكل منتظم ، وأن تحذر المنظمة الدولية للأرصاد الجوية من أنه إذا لم يتم تدارك مشكلة الاحتباس الحراري ، واستمر الحال على ماهو عليه ، فإن العالم مقبل على كارثة مناخية لا محالة مع نهاية القرن الحالي ، وهو أمر مخيف بكل المقاييس . وما حرائق الغابات من سيبيريا الى الأمازون مرورا بأوروبا ، وذوبان الجليد في القطب الشمالي بمعدلات اكبر من أي وقت مضي ، فضلا عن عمليات التصحر والسيول والأنواء المناخية المتكررة وغيرها في مختلف مناطق العالم مما نشهده حاليا ، سوى مقدمات تستحث الجميع على العمل لإنقاذ كوكبنا .

وبغض النظر عن أن هناك من لا يصدقون الدراسات العلمية العديدة والمستمرة منذ عقود حول مشكلة الاحتباس الحراري والحاجة الفعلية الى العمل لمنع ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من درجة مئوية واحدة ، أو أقل من درجة ونصف الدرجة المئوية على الأكثر، مقارنة بمرحلة ما قبل عصر الصناعة ، سواء لعدم إيمانهم بالعلم ونتائجه ، أو تهربا من التزامات دولية تقع على عاتق دولهم ، أو رغبة في تنفيذ سياسات داخلية عملية تحقق مصالح ضيقة وآنية لهم كقادة ، حتى وإن كانت تضر بالعالم أجمع ، وأشهر مثال على ذلك هو موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ التي تم التوصل إليها عام 2015 ، وما يسببه ذلك من تأثيرات سلبية تمتد الى الكرة الأرضية ككل اليوم وغدا وفي المستقبل ، خاصة وانه من المعروف أن الصين والأولويات المتحدة والهند وروسيا هي أكثر الدول المنتجة لغازات الدفيئة ، ومن ثم أكثر الدول مطالبة بالعمل على الحد من الانبعاثات ، فإنه من حسن الحظ أن المجتمع الدولي قد حزم أمره منذ سنوات من أجل العمل للتصدي لمشكلة الاحتباس الحراري ، وما يتفرع منها من مشكلات .

صحيح أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وحتى الآن تلعب فيه الولايات المتحدة الأمريكية دورا على درجة كبيرة من التأثير ، بوجهيه الإيجابي والسلبي وفقا لطبيعة التطورات ومجالها ، ولكن الصحيح أيضا هو أن المجتمع الدولي تزداد قدرته على الحركة ، ولو ببطء وفي مدة أطول ، عندما تتخذ واشنطن موقفا مناوئا أو غير متعاون ، وهو ما يعني أن أثر الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس قد يقل مع مرور الوقت ويمكن أن يتلاشى إذا عادت واشنطن للالتزام بالاتفاقية في المستقبل خلال بضع سنوات على الأكثر، وذلك في ضوء السياسات الأمريكية المحتملة كما هو مرجح . وعلى أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

أولا : انه بالرغم من كل ما يقال عن الأمم المتحدة ، وفعاليتها المحدودة في التعامل مع كثير من القضايا الدولية ، لاعتبارات وأسباب كثيرة ومعروفة على امتداد السنوات والعقود الماضية ، إلا أن الأمم المتحدة ، باعتبارها المنظمة العالمية الأم ، لا يقتصر دورها على قضايا السلام والأمن الدوليين ، ولكنها ، والمنظمات المتخصصة التابعة لها ، تعنى بمختلف القضايا ذات الصلة بحياة الإنسان ، وبكل ما يساهم في جعل حياة البشر أسهل وأكثر قدرة على تلبية متطلبات تحسين حياتهم ومستوى معيشتهم ، وفي هذا الإطار عنيت الأمم المتحدة بقضايا الفقر والتعليم والثقافة والصحة ومقاومة الأمراض ، والبيئة والتصحر، والتنمية والهجرة ، والاتصالات وقضايا المياه والبحار والطاقة ، الى جانب التجارة والاقتصاد والحروب والخلافات بين الدول والعمل على حلها بالطرق السلمية ، والسعي الى تحقيق أكبر درجة ممكنة من التعاون بين الدول والشعوب ، بل إن أنشطة واجتماعات الأمم المتحدة بشأن القضايا غير السياسية ، هي بالفعل أكثر نجاحا وتأثيرا منها بالنسبة للقضايا السياسية ، والأسباب معروفة ، وتقدم قضية التعامل مع مشكلة الاحتباس الحراري ومشكلات البيئة والتنمية والفقر والجوع وغيرها نماذج مشجعة الى حد غير قليل وبما يؤكد أن الدول على امتداد العالم باتت أكثر إدراكا لدورها ولالتزاماتها ولأهمية التعاون الجماعي لمواجهة المشكلات جماعية التأثير ، وفي مقدمتها قضايا المناخ والبيئة . ومنذ مؤتمر المناخ الذي عقد في العاصمة السويدية استكهولم عام 1972 ، بدعوة من الأمم المتحدة ، ثم القمة الثانية « مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية » التي عقدت في العاصمة البرازيلية ريودي جانيرو عام 1992 ، فإنه قد عقدت الكثير من المؤتمرات واللقاءات واجتماعات اللجان الفرعية المعنية بالمناخ بوجه عام وبالاحتباس الحراري والتصحر والجفاف ومشكلة المياه بوجه خاص وكانت قمة باريس عام 2015 نقطة تحول في هذا المجال ، بحكم ما أكدته من التزامات ، وبحكم الاستعداد الدولي المتزايد للعمل باتفاقية باريس التي دخلت حيز التنفيذ في الرابع من نوفمبر عام 2016 والتي لن يؤثر عليها كثيرا - كما هم مأمول - الانسحاب الأمريكي منها ،الذي نأمل أن يكون مؤقتا . وكانت اجتماعات أبو ظبي حول المناخ في يونيو الماضي ، ثم قمة نيويورك في سبتمبر الماضي ومؤتمر مدريد المعني بتغير المناخ والمنعقد حاليا في مدريد ، على جانب كبير من الأهمية ، خاصة ما أظهرته من اتفاق والتقاء بين عدد كبير من الدول حول أهمية وضرورة تعزيز التعاون الجماعي لمواجهة مشكلة ازدياد انبعاثات غازات الدفيئة وخاصة في الجو ، إلا ان الوفاء بالالتزامات المالية اللازمة لذلك لم يكن بالقدر نفسه ، وهو أمر مفهوم ، سواء بفعل الانخفاض في حجم التجارة الدولية ، بسبب الحرب التجارية بين أمريكا والصين ، وبفعل انخفاض أسعار النفط ، وبفعل المشكلات التي تواجهها دول كثيرة في العالم ومنها مشكلات حروب وعنف وإرهاب ومشكلات بيئة وحرائق غابات وغيرها ، هذا فضلا عن أن كثيرا من الدول النامية لا تضع قضايا المناخ ضمن أولوياتها العملية ، سواء لطبيعة ظروفها ، أو انتظارا للاستفادة مما قد تتلقاه من إعانات دولية في هذا المجال . ومن شأن ذلك أن يضع عبئا ومسؤولية أكبر على الدول الصناعية والدول المتقدمة ، خاصة في أوروبا وأسيا وعلى شركات النفط والشركات الكبري العالمية التي يمكنها الإسهام بقدر من التمويل ، حتى تعود الولايات المتحدة الى الالتزام باتفاقية باريس وتلتزم بنصيبها في التمويل الذي تزداد الحاجة إليه في الواقع .

ثانيا : انه بالنظر الى أن قضايا المناخ والبيئة هي قضايا جماعية ، تخص كل الدول في العالم ، نامية ومتقدمة ، صغيرة وكبيرة ، غنية وفقيرة ، لأن تأثيرات البيئة والمناخ لا تميز بين البشر ، فإن من الأمور بالغة الأهمية والدلالة ، والتي تعكس الإدراك المبكر والعميق من جانب حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - لقضايا البيئة ولضرورة العناية والتعاون الدولي من أجلها ، أن السلطنة كانت أول دولة عربية تنشئ وزارة للبيئة وهي الوزارة التي لا تزال قائمة حتى الآن ، والتي تحمل اسم وزارة البيئة والشؤون المناخية . وهي تقوم بدور كبير ومتسع للعناية بالبيئة في السلطنة ، برا وبحرا وجوا ، وقد نجحت وزارة البيئة والشؤون المناخية ، في تحقيق درجة أكبر و أوسع من الوعي البيئي على مستوى المجتمع من ناحية ، وفي جعل الالتزام بالشروط الخاصة بالحفاظ على البيئة أحد الشروط الأساسية للموافقة على إنشاء المؤسسات والمشروعات والمصانع في السلطنة من ناحية ثانية ، كما أن السلطنة تقوم بدور نشط وملموس في إطار التعاون الخليجي والعربي في مجال الحفاظ على البيئة ، وذلك من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومن خلال جامعة الدول العربية .

من جانب آخر فإن مما له أهمية ودلالة في هذا المجال ان الاهتمام العماني بالبيئة لم يقتصر على الساحتين الداخلية والإقليمية فقط ، ولكنه امتد ومنذ وقت مبكر أيضا الى الساحة العالمية ، إدراكا ويقينا من جانب جلالته - أعزه الله - بأن الحفاظ على البيئة وصونها يتطلب اكبر قدر ممكن من التعاون بين الدول والمؤسسات المعنية وفي مقدمتها المؤسسات والمراكز والهيئات العلمية المعنية بهذا المجال الحيوي .

وفي هذا الإطار قدم جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - جائزة «اليونيسكو السلطان قابوس لصون البيئة» في عام 1989 ، وهى أكبر جائزة دولية في مجال صون البيئة ، ويتم منحها كل عامين من خلال برنامج «الإنسان والمحيط الحيوي» التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» والذي يتولى التحكيم من خلال لجنة مكونة من خمسة محكمين دوليين ، وقد بدأ منح الجائزة في عام 1991 ، وهي مستمرة بانتظام ، وقد فاز بها في نوفمبر 2019 «صندوق اشوكا للأبحاث في مجال الايكولوجيا والبيئة» الهندي ، وهي المرة الخامسة عشرة التي يتم فيها منح الجائزة وفقا للشروط والأسس التي تضعها لجنة التحكيم المشار اليها للتنافس العالمي وللفوز بها ، وتمثل الجائزة إضافة ملموسة على صعيد العناية بالبيئة على المستوى الدولي ، حيث فاز بها على مدى الثلاثين عاما الماضية علماء ومعاهد علمية وجامعات ومراكز بحثية من مختلف مناطق العالم .

جدير بالذكر أن جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله ورعاه - وجه كلمة الى مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية « قمة الأرض » التي عقدت في ريودي جانيرو بالبرازيل في 3 يونيو 1992 أكد فيها على « أن الحفاظ على البيئة مسؤولية جماعية لا تحدها الحدود السياسية للدول ، ثبت ذلك غير مرة ، وعليه فإن على الإنسان أينما كان أن يساهم في الحفاظ على البيئة وأن يتصالح معها وأن يتعامل معها بعقلانية وأن ينتبه للمسببات الكثيرة للتلوث سواء طبيعية وبيولوجية أو صناعية وكيميائية وفيزيائية». كما دعا جلالته العالم الصناعي الى «الحفاظ على التوازن المطلوب بين التنمية المنشودة والحفاظ على بيئة نقية» . وهذه المبادئ هي التي تتبعها السلطنة ، في اتساق كامل مع الذات وفي التعاون مع الهيئات الدولية المعنية ، وبما يقدم نموذجا طيبا يحتذى في الحفاظ على البيئة على كل المستويات .

ثالثا : انه في الوقت الذي تقوم فيه السلطنة بدورها ، محليا وخليجيا وإقليميا ودوليا للحفاظ على البيئة والحد من انبعاثات غازات الدفيئة ، وذلك بالاتجاه المتزايد الى استخدام تقنيات الطاقة المتجددة النظيفة ، فإنه يتوفر للسلطنة موارد طبيعية ذات قيمة عالية في مجال القدرة على امتصاص كميات كبيرة من غاز ثاني اكسيد الكربون من الجو ، ونعني بذلك صخور «الاقيوليت» المتوفرة في السلطنة . وتجدر الاشارة الى أنه جرى عقد أكثر من حلقة عمل بين مركز أبحاث علوم الأرض بجامعة السلطان قابوس ووزارة البيئة وجهات ومراكز علمية عمانية وباحثين من 12 دولة هي السلطنة و أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنرويج وهولندا وكندا واستراليا وإيطاليا والسويد وسويسرا وذلك في اطار برنامج بحثي عام 2011 في جامعة السلطان قابوس وعام 2012 في نيويورك ، وذلك للتوصل الى تقييم علمي حول قدرة صخور «الافيوليت» على امتصاص ثاني اكسيد الكربون من الجو ، وآليات عملية الكربنة - أي امتصاصها لغاز ثاني اكسيد الكربون بعد امتزاجها بمياه البحر والمياه الجوفية - وأفضل الظروف لها ، كما تم حفر بعض الآبار في سمائل وبدبد للأغراض العلمية ، حسبما نشرته صحيفة «عمان» قبل أكثر من ثلاث سنوات . وسوف يتوقف الكثير على نتائج تلك الجهود العلمية ، وبما قد يفتح المجال أمام فرص واعدة علمية واقتصادية لاستخدام ضخور « لافيوليت» في السلطنة للإسهام في مواجهة مشكلة الاحتباس الحراري في العالم ، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج إيجابية للسلطنة وللعالم من حولها أيضا . ويظل نشر الوعي البيئي ، والإيمان بالمسؤولية الجماعية ، ووفاء الدول بالتزاماتها وفق اتفاقية باريس ، وهو ما تمارسه السلطنة ، مفاتيح أساسية للعمل لإنقاذ الأرض خلال السنوات القادمة .