أزمة المُناخ في مواجهة التحالف الأخلاقي الجديد
صلاح أبو نار -
في الثاني من ديسمبر الجاري انطلقت أعمال مؤتمر الأمم المتحدة الخامس والعشرين للتغير المناخي، في حضور 25.000 مشارك قدموا إلى مدريد من 200 دولة. وقبيل انعقاده صرح أنطونيو جوتيريس أن المؤتمر «يشكل نقطة اللاعودة في مسيرة البشرية المناهضة للتغير المناخي».
ولا يستمد هذا الحكم صحته من مجرد كونه المؤتمر السابق والممهد لمؤتمر 2020 القادم في لندن، والمتفق على كونه سيشكل نقطة انطلاق جديدة لخطط العمل المناخي على المدى الزمني الطويل. بل أيضًا من انعقاده في سياق انطلاق واتساع ما ندعوه «التحالف الأخلاقي الجديد»، الذي سينقل خلال العقد القادم القوة الدافعة الأساسية للعمل المناخي من مجال الحكومات والمنظمات الدولية، إلى مجال المؤسسات الأهلية وجماعات العلماء والحركات الاجتماعية الدولية.
ينعقد المؤتمر في سياق مرحلة حرجة في مسيرة العمل المناخي تجعله جديرًا بوصف أنطونيو جوتيريس.
ولو بحثنا عن العوامل التي شكلت ما دعوناه بالمرحلة الحرجة سنجدها أساسًا داخل عاملين.
يتعلق العامل الأول بقصور إيقاع مسيرة العمل المناخي. الأمر المؤكد أن هناك قدرًا ليس هينًا من التقدم تحقق في هذه المسيرة. إلا أن هذا التقدم لا يشمل كل قطاعات العمل المناخي، ولا يرتقي إلى مستوى المعدلات المطلوبة في المجالات التي تقدم فيها، الأمر الذي يجعله أقل كثيرًا من المؤشرات القطاعية والكمية والزمنية التي حددتها اتفاقية باريس. وتمنحنا مؤشرات انبعاث غازات الدفيئة المؤشر الأساسي على هذا القصور.
وفقًا لاتفاقية باريس يتعين أن تكون الزيادة المتوقعة في درجة الحرارة في حدود 1.5 درجة مئوية عند نهاية القرن، إذا كان للبشرية إن تنجز مواجهة ناجحة للتغير المناخي. ولكي ننجح في تحقيق هذا الهدف ينبغي أن تصل نسبة انبعاث غار ثاني أكسيد الكربون عند منتصف القرن إلى الصفر. ولكن مسار التطورات على مدى العقد الأخير يشير إلى عكس هذا الاتجاه تمامًا. على امتداد العقد الماضي واصلت غارات الدفيئة انبعاثها بمعدل 1.5% سنويًا، حتى عام 2018 سجلت الغازات المنبعثة من الاستخدام الأرضي 55.3 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون.
وفي 2018 وصل حجم انبعاث ثاني أكسيد الكربون الناتج عن استخدام الوقود الأحفوري 37.5 جيجا طن. وحتى الآن لا توجد مؤشرات على اتجاه انبعاث غازات الدفيئة للانخفاض خلال الأعوام القادمة، وهو ما يعني انه مع استمرار المعدلات الراهنة سنكون في عام 2030 في حاجة إلى تخفيض 25% على الأقل من الانبعاثات، لكي يتحقق هدف زيادة درجة الحرارة بمعدل أقل من 2 درجة مئوية. ويضاعف من خطورة الأمر، أنه رغم التزام 65 دولة وكيان اقتصادي رسميًا، بالوصول إلى نقطة الصفر في الانبعاث بحلول منتصف القرن، لم يقدم سوى القليل منها استراتيجيات رسمية لتحقيق هذا الهدف.
ويتصل العامل الثاني بسياسات الدول تجاه تغير المناخ. يتخلل سياسات هذه الدول توجهات متناقضة من مسألة المناخ. مع الصعود المتصل للشعبوية في السياسة الأوروبية، ودخول ترامب البيت الأبيض، أخذت حالة شبه الإجماع المناخي الغربي التي نجحت اتفاقية باريس في تأسيسها في التآكل التدريجي وأخذ التيار المنكر لأزمة المناخ في توطيد أقدامه، حينًا بالانسحاب المباشر من الاتفاقية وغالبا عبر التهاون في تنفيذ التزاماتها. ولا يزال التيار المؤيد للاتفاقية مسيطرًا على التوجهات الرسمية، ولكنه بات يواجه تحديات قوية أغلبها ناتج عن الفراغ القيادي الذي خلقه الانسحاب الأمريكي.
يضاعف من خطورة هذا التيار أمرين. الأول أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحدهما مسؤولين عن 47% من إجمالي الانبعاثات. ويبلغ نصيب أمريكا وحدها 25% منها، والأخطر أن أمريكا صاحبة اكبر نسبة انبعاث لثاني أكسيد الكربون مردودًا إلى الفرد، حيث يبلغ 16.6 طن مكعب.
والثاني أن بعض التزامات الاتفاقية المهمة ما زالت غامضة وغير مكتملة وقابلة للالتفاف عليها.
والأمر المؤكد أن التيار المسيطر يسعى جاهدًا لتدارك هذا الوضع، ولكن فيما نتصور لن يتمكن بحكم تركيبته ونمط علاقته العضوي بالاقتصاد الرأسمالي من خوض مواجهة جذرية وبالإيقاع الزمني المطلوب.
وتتبلور الآن قوة جديدة على امتداد العالم ندعوها بالتحالف الأخلاقي الجديد، تشير مؤشرات عديدة لامتلاكها قدرة جذرية على الدفع بالعمل المناخي بقوة وانتظام، إذا تمكنت من مواصلة معدل نموها الراهن وإيقاعها الحركي. وتتواجد تلك القوة على امتداد العالم، ولكن مركز ثقلها القوي يتواجد داخل أوروبا الغربية. وهي تتكون أساسا من فئتين أساسيتين هما الشباب وفي القلب منهم طلاب المدارس العليا والعلماء، ولكن هؤلاء لا يمثلون سوى النواة والقوة المحركة التي تمتلك قواعد مساندة ومغذية داخل فئات وأقسام اجتماعية أخرى، تنمو بقوة واطراد مع مرور الوقت وتراكم الحركة والتجارب.
ومن الصعب مع هذا النوع من الظواهر أن نحدد له نقطة بدايته زمنية. فهو ينمو بإيقاعات متباينة وعبر ظواهر وسيطة، وفي لحظة معينة يبرز على السطح قويا وعلى درجة من وضوح المعالم، دون أن نقول إنها لحظة ميلاده. ويمكننا رصد هذه اللحظة في نوفمبر 2015 مع أول أيام انعقاد مؤتمر المناخ الذي أسفر عن اتفاقية باريس، عندما دعت مجموعة من طلاب المدارس لتنظيم إضراب للاحتجاج على التغير المناخي، ونجحوا في تنظيمه في مائة دولة وشارك فيه ما يزيد عن 50.000. وإذا وصلنا عام 2019 سنجد حركة هذا التحالف شديدة الحضور والتبلور، وتتخذ في حالة الشباب شكل «أيام الجمع من أجل المستقبل» الذي أطلقته جريتا ثونبيرج، وفي حالة العلماء العرائض الجماعية التي يوقعها عشرات الآلاف منهم، ولكن تلك هي الأشكال الأساسية وليست الوحيدة.
وإذا أردنا فهم طبيعة هذا التحالف الأخلاقي علينا أن نرصد خصائصه الأساسية ودلالتها السياسية.
يلاحظ عليها:
أولا: كثافة أعداد المشاركين. شارك في احتجاجات 15 مارس 2019 حوالي 1.6 مليون شاب، وقدر عددهم في احتجاجات 20 سبتمبر بحوالي 4 ملايين، واحتجاجات 27 سبتمبر بحوالي 2 مليون. وتنتشر هذه الأعداد.
ثانيا : على نطاق جغرافي شديد الاتساع. شارك في احتجاجات نوفمبر 2015 شباب ينتمي إلى 100 بلد، وتوزع المشاركون في احتجاجات ديسمبر 2018 على 270 مدينة على امتداد العالم، والمشاركون في احتجاجات منتصف مارس 2019 في 125 بلدًا، والمشاركون في احتجاجات 29 نوفمبر 2019 على 240 مدينةً في 157 بلدًا.
الصفة الثالثة هي التواتر والانتظام الحركي، وظهر ذلك واضحا في 2019، وعلى سبيل المثال نظم فيما بين 15 مارس و29 نوفمبر أربعة إضرابات مناخية عالمية.
وسنجد الصفة الرابعة في الترابط العضوي بين حركة الشباب وحركة العلماء. فالعلماء يشاركون في تحركات الشباب. ويصدرون بانتظام البيانات المؤيدة لهم. ففي فبراير 2019 وقع 240 أكاديميًا بريطانيًا بيانًا مؤيدًا لحركة الطلاب، وفي مارس 2019 ووقع 700 عالم ألماني على بيان مماثل حصل على توقيعات مؤيدة لحوالي 26.000 عالم من ألمانيا واستراليا وسويسرا.
ويمكننا رصد صفة خامسة تتعلق بكفاحية التحركات الشبابية، كما تتمثل في الإصرار والمثابرة والإبداع الحركي وسنجد علة تلك الصفة في طبيعتها الشبابية. لا يتسم الشباب بالطاقة الحركية فقط، بل أيضا بالاستقلالية الناجمة عن عدم اندماج قطاع واسع منهم في شبكات الضبط الاجتماعي المرتبطة بالأسرة الخاصة والانتماء المهني.
وتأتي الصفة السادسة في رصد المحللين لتحرر هؤلاء الشباب من المنظور البيئي التقليدي القديم. فلم تعد بؤرة اهتمامهم الحيتان والدببة القطبية وحرائق الغابات، بل أضحوا يتحدثون أكثر فأكثر عن المشاكل الاجتماعية ويبرزون الصلة بين التغير المناخي العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي، ويشددون على مساهمة التصحر والجفاف في اقتلاع البشر من مواطنهم والجوع والأوبئة، وتهديده للمستقبل البشر وقدرتهم على إعادة الإنتاج المتوازن لمجتمعاتهم. ولم يجعل هذا من وعيهم وعيا عالميا فقط، بل جعله أيضًا وعيًا مستقبليًا مهمومًا بتهديد التغير المناخي لمستقبل الجنس البشري. ويفسر لنا هذا قوة الطابع العالمي لتحركاتهم، وقدرتهم الفائقة على التنسيق بين عشرات الألوف في عشرات المدن في عشرات البلدان. والأهم أنه يفسر قدرة الحركة ذات البؤرة الشبابية، على الاجتذاب المتصاعد لفئات اجتماعية مساندة تنتمي إلى شرائح أكبر سنًا. وتأتي الصفة السابعة والأخيرة. تمكنت الحركة في مدى زمني قصير من تحقيق إنجاز شديد الأهمية، وهو حصولها الشرعية السياسية من قطاع قوي من المؤسسات القومية والدولية، وبالتالي تأسيس صلات عضوية معها تمكنها من الاحتجاج السياسي إلى التفاعل مع المؤسسات الحاكمة.
لم تقف جريتا ثونبيرج خطيبة أمام مؤتمر المناخ العالمي فقط بل أمام الجمعية الوطنية الفرنسية أيضًا، وتمكنت إضرابات المدارس من دفع جان كلود جونكر رئيس اللجنة الأوروبية إلى الوقوف إلى المحتجين، والتصريح أنه يخطط لإنفاق مئات البلايين من الدولارات من ميزانية الاتحاد الرابعة على قضية المناخ.
والأمر المؤكد أن الحركة لو واصلت نمط نموها الراهن ستشكل على المدى الزمني المتوسط قوة أساسية في العمل المناخي. فهي في عنصرها الشبابي تحمل طاقة حركية قوية ورؤية اجتماعية جديدة تمتلك قابلية للانتشار والحشد، والأهم أنها ستساهم في تغيير تركيبة القواعد الانتخابية في البلدان الغربية مع حصول شبابها على حق التصويت. وهي في عنصرها العلمي تحمل القدرة على التأثير في المجال الثقافي، وحشد المؤسسات العلمية من حول قضية المناخ.