mahmood2
mahmood2
أعمدة

جرة قلم: المغاربة واللطف «الاجتماعي»

08 ديسمبر 2019
08 ديسمبر 2019

محمود الرحبي -

هناك مثل يقول «الكلمة الطيبة تنزع شوارب الأسد».. وثمة سمة يمكن ملاحظتها بسهولة في الأحياء الاجتماعية في المغرب. في مثل هذا السياق، الذي يحمل نكهة الألفة، أفضل استخدام كلمة «الاجتماعية»، بحمولتها السيسيولوجية، عوض كلمة «الشعبية».

جرت بي العادة، في الصباح المبكر، أن أنسلّ من الفراش وأشق طريقي إلى المقهى، حاملا حقيبة فيها حاسوب وكتاب. هذه المرة كان فيها كتابان ينتميان إلى ما يمكن تسميته حقل «إعادة القراءة»، إنصاتا إلى نصيحة عاشقَين مغرمَين بالكتب ما فتئا يلحّان على أهمية إعادة القراءة أكثر من القراءة نفسها! وهما خورخي لويس بورخيس، وعبد الفتاح كيليطو. ومن المصادفة أن الكتابين حاز صاحباهما جائزة نوبل في العقد نفسه، أعني رواية «خان الخليلي» لنجيب محفوظ ورواية «مائة عام من العزلة» لغارسيا ماركيز..

قبل أن أصل إلى المقهى صادفت «باتسري» أو محلّ حلواني شعبي. كان من النادر أن أجد المحلّ مفتوحا بحكم مروري المبكر. هذه المرة شاءت الصدفة، أيضا، أن يكون مفتوحا. كان يبيع فيه شيخ مع حفيدته. سلّمت عليهما وطلبت خبزة شعير، لأحملها معي إلى المقهى. قالت لي الفتاة: ماذا أضع لك في جوفها؟ قلت لها لا شيء. وكان خلفي شاب يأكل فطيرة فانتبهت الفتاة إلى أنه لم يطلب ما «يدوّز» به الفطيرة، فقالت له سأحضر لك شايا، فقال لها، مجاملا: لا داعي. فأردفت وهي تقدم له الكأس الساخن: هذا من عندنا بدون مقابل. ثم وضعت لي في خبزة الشعير مربّى. قلت لها، بدوري، لا داعي، فالشعير وجبة مكتملة وتحمل قيمتها بدون إضافات. فقالت لي: المربى من عندنا. ثم انشغلت بتلبية طلب زبون آخر. دفعت المبلغ للشيخ الذي كان يقف قبالة «الكاشير»، والذي كان يراقب كل شيء في صمت، فقال لي: اِدفع فقط ثمن خبزة الشعير..

ومنذ فترة غير بعيدة، ذهبت برفقة العائلة إلى شاطئ الجبهة، وهو شاطئ لا يعرفه الكثيرون؛ بعيد ويمر الطريق فيه بالتواءات جبلية شاهقة. سبب ذهابنا هناك أن عائلة لديها ثلاثة أطفال من ذوي الهمم طلبت منا أن نحملها إلى هناك، لزيارة خالة لهم. كان الطريق شاقا جدا، حتى أننا انطلقنا قبل الظهيرة ووصلنا في آخر الليل. وحدث بالصدفة المحضة أن انقطعت إحدى فردتي نعلي وأنا أمشي على شاطئ الجبهة الجميل والبسيط، الذي تكشف فيه الطبيعة جمالها بدون زوائد، حيث يوجد فقط البحر والجبل. جلست في مقهى وطلبت من الجرسون الشاب أن يُحضْر لي لاصقا حتى أستطيع أن أكمل المسافة ريثما أجد محلا لأشتري منه نعلا جديدا. فبذل الشاب مجهودا في إحضار اللاصق ثم ساعدني في إلصاق فردة نعلي. وحين أردت أن أنقده مبلغا زائدا على سعر القهوة رفض.

وحين وجدت دكانا يعلق النعال كما تعلق الملابس المغسولة، اشتريت نعلا. ولكني حين عدتُ إلى البيت اكتشفت أن ثمة نعلا احتياطيا موجودا لم أنتبه إليه. فقفلتُ إلى الدكان لأرجعه. ودارت في ذهني فكرة أن يخصم البائع بعض الدراهم لأني استخدمت النعل طيلة الطريق إلى البيت.. رفض صاحب الدكان أن يأخذ أي مبلغ زائد وأرجع لي المبلغ الذي دفعتُ له كاملا دون زيادة وأخذ النعل وعلقه مكانه.

جمعني، من حسن حظي، لقاء بالطيب صالح، ذات مناسبة في القاهرة. حضرتُ محاضرة ألقاها في قاهرة المعزّ في 2004، قبل خمس سنوات من رحيله عن دنيانا.

ظللت، خلال الاستراحات التي تخللت محاضرته، أنتهز الفرصة للوقوف إلى جانبه والتحدّث معه في شتى المواضيع.. شخصية هائدة، دمثة، يستمع أكثر ممّا يتحدث. شغوف بقضايا أمته ومتألم على مآلات الأوطان العربية.