أفكار وآراء

العمالقة الألمان ومستقبل الناتو

29 نوفمبر 2019
29 نوفمبر 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

إلى أين تمضي العلاقات بين أوروبا عامة والولايات المتحدة من جهة وبين الأمريكيين والألمان من جهة ثانية ؟ علامة استفهام بات الخبراء والمختصون يبحثون لها عن جواب في الآونة الأخيرة سيما بعد أن بدا أن هناك إشكاليات عديدة تنتاب تلك العلاقات على أكثر من صعيد ومنحى من مناحي الحياة اليومية.

البداية يمكن الإشارة إلى أن هناك مسارا مزدوجا، يشوبه الاضطراب وعدم وضوح الرؤية وهذا أمر يتفهمه المؤرخون بشكل كبير في أزمنة التغير الجيوبولتيكي الكبرى، وهي عادة ما تحدث كل خمسة عقود أو عقب انتهاء الحروب الكبرى.

أولا يمكن القول: انه ومنذ بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بات جليا أن هناك اختلافا عميقا في وجهات النظر بين جانبي الأطلسي الأمر الذي تجلى واضحا في قرار غزو العراق، ذاك الذي تحمس له كثيرا الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، في حين رفض الرئيس الفرنسي الراحل عن عالمنا حديثا جاك شيراك الشراكة في تلك الحرب، ومعه مستشار ألمانيا جيرهارد شرودر في ذلك الوقت.

والمؤكد انه منذ ذلك الوقت والقضايا الخلافية تتسع بين الجانبين وان كانت إدارتا باراك اوباما قد شهدتا نوعا من التهدئة الظاهرة بين أوروبا وأمريكا، غير أن ألمانيا كانت هناك دوما في قلب المراقبة الأمريكية، واكتشف العالم لاحقا أن الأمريكيين يتنصتون على كافة مناحي حياة الألمان، وانهم جندوا بعض أصحاب الرتب العليا في الجيش الألماني لصالحهم، وبلغ الأمر حدا أكثر من ذلك هو حين اكتشف الجميع أن هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لم يخل من التنصت عبر برنامج عرف باسم «بريزم».

ذهب باراك أوباما وجاء إلى سدة البيت الأبيض دونالد ترامب، رجل الأعمال وصانع الصفقات، والذي لا دالة له على العمل السياسي وجل تركيزه كان على العودة بأمريكا كدولة رائدة ورقم واحد حول العالم من خلال احتلال المكانة الاقتصادية الأكبر حول العالم، وقد وجد ساعتها أن الأوروبيين شركاء غير منصفين.

باختصار غير مخل ذهب ترامب إلى أن الأوروبيين عامة والألمان خاصة هم اكثر من يتسبب في خسائر للجانب الأمريكي، ويومها قال ترامب ولا يزال يقول: إن أوروبا يجب أن تتحمل نفقات الدفاع عنها بعد أن تحملت أمريكا هذا العبء لعقود طالت بعد الحرب العالمية الثانية، ولهذا رأى أنه من الواجب أن تدفع كل دولة أوروبية اثنين ونصف في المائة من ناتجها الإجمالي كمساهمة في حلف الناتو.

هنا بدا التصدع يضرب الناتو وربما للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، وهو الحلف الذي اشتد عوده ونضجت مداركه طوال سنوات الحرب الباردة والتي امتدت لنحو أربعين سنة، وفات الأمريكيين أن حاجة الأوروبيين اليوم إلى حلف الأطلسي لم تعد كما كان الحال من قبل، فروسيا الاتحادية لم تعد المهدد الأكبر للأوروبيين، بل إن هناك خطوط وصل بين الجانبين وألمانيا تحديدا تتزعم هذا السياق لا سيما عبر ما يعرف بخطوط السيل الشمالي لنقل النفط والغاز من روسيا إلى ألمانيا، الأمر الذي سبب إزعاجا كبيرا جدا للجانب الأمريكي حتى أن ترامب أشار إلى أن هذا أمر غير عادل بمعنى أن بلاده تحمي أوروبا، والأخيرة تشتري النفط والغاز من الروس.

حاولت أبواق الجماعات المحافظة الأمريكية تصوير المشهد الصيني بانه كذلك تهديد مباشر لأوروبا، غير أن واشنطن تتفاجأ يوما تلو الآخر بشراكات أوروبية صينية، بعضها كالعلاقات الإيطالية الصينية سبب مخاوف كبيرة للأوروبيين من أن تكون إيطاليا ذات الاقتصاد المتردي كعب أخيل بالنسبة للصينيين في القارة العجوز.

من بعد إيطاليا كانت العلاقات الفرنسية الصينية تتصاعد في أعلى عليين مرة واحدة، وبدا أن هناك قاسما مشتركا كبيرا بين الجانبين لجهة مشروعات مستقبلية عديدة تدفع الاقتصاد الفرنسي بنوع متميز في آفاق جديدة.

وما بين إيطاليا وفرنسا كانت بقية دول أوروبا تقع في الإطار الجغرافي الخاص بطريق الحرير الصيني الجديد، ذاك الذي يذهب إلى جمع الأوروبيين والصينيين.

هل كانت العلاقات الأوروبية الروسية والأوروبية الصينية ضربة قاصمة لحلف الناتو؟

يمكن القطع بأن كثيرين من الجانب الأوروبي يتساءلون بعمق اليوم ما فائدة تلك الأموال الطائلة التي ندفعها للعم سام ونحن لسنا في حالة حرب، بل إن افق التعاون الاقتصادي بين طرفي آسيا وأوروبا أحيت فكرة قديمة قال بها رئيس فرنسا الأشهر الجنرال شارل ديجول، حين أشار إلى انه عند نقطة زمنية بعينها سيكون الحلف الأوراسي هو الحقيقة الوحيد القائمة أمام العالم، وهو الحلف الذي يمتد من جبال الأورال شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وها هي الأيام تكاد تثبت صحة رأي بطل معركة تحرير فرنسا مرة والى أمد يمكنه أن ينهي زمن حلف الناتو.

هل لهذا السبب تحدث الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون العام الماضي عن ضرورة إنشاء جيش أوروبي مشترك؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، فالرجل ذهب من منظور أوروبي معاصر يرى حتمية الدفاع عن أوروبا من خلال أبنائها ويوفر ما يشبه الجباية المدفوعة للناتو لا سيما وأن الزمن تغير وبات من الأحق إنفاق أموال أوروبا داخل مشروعات أوروبية وليس أمريكية.

والحادث انه مرة جديدة ارتفع الجدل داخل أوروبا من جراء البقاء في حلف الناتو أو نهاية زمنه وقد كان ماكرون مثار الحديث وعنده نفس الأسباب، جرى ذلك الأسبوعين الماضيين، غير أن المفاجأة وما يمثل الطريق المزدوج الذي اشرنا إليه سلفا كانت في الموقف الألماني الذي اعترض على توجه ماكرون، وقد كان المتوقع أن تمضي ميركل في مسار مؤيد للرئيس الفرنسي وداعم لفكرة الجيش الأوروبي الموحد، وللتحلل من رباطات ووثاقات الرئيس ترامب ومن يخلفه.

هنا علامة الاستفهام ما الذي جعل الألمان يذهبون إلى ذلك الاتجاه أي التصميم على الحفاظ على العلاقة الجذرية مع الجانب الآخر من الأطلسي وان تصرح ميركل بانه من الواجب البقاء في الناتو وأن هناك أخطارا محدقة بأوروبا التي لا يمكنها أن تدافع عن نفسها من غير دعم الجانب الأمريكي؟

يكاد المحلل المحقق والمدقق في الشان الألماني القطع بان هناك ما تخفيه ألمانيا في الأكمام، وكأني بها تداري أو تواري شيئا ما، ولا تريد أن تبدو الدافع الحقيقي للانفصال عن ألمانيا...ماذا عن هذا؟

يستخدم المفكر الأمريكي الجنسية الياباني الأضل «فرانسيس فوكاياما»، في مجلده الكبير «الثقة... الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي»، مصطلح «العمالقة الألمان»، فهل يا ترى تحاول ألمانيا مدارة ومواراة عملقتها الاقتصادية عن العم سام، وكانها تريد أن تمضي في مسيرتها من دون إزعاج إلى لحظة بعينها تعاود فيها التجلي عسكريا في أوروبا ما يجعل منها بصورة أو بأخرى قوة ند وكفء إلى درجة كبيرة للعم سام؟

المؤكد أن ألمانيا تمثل قلب أوروبا النابض اقتصاديا، وهي التي أنقذت العديد من الدول الأوروبية من سقطتها المالية طوال العقدين الماضيين، ولعل اهتمام العالم والأمريكيين بألمانيا يعود إلى سببين رئيسيين:

الأول: هو النجاح الخارق الذي حققه الألمان على كافة الأصعدة ولفترة طويلة جدا من الزمن، واستطاعت أن تسبق جاراتها الأكثر تقدما في أوروبا كبريطانيا وفرنسا، رغم أنها هي التي هزمت واستسلمت في الحرب العالمية الثانية، والآخرون خرجوا منتصرين، وأصبحت ألمانيا القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا في جيلين لا اكثر، ولا تزال ألمانيا تحافظ على موقعها الريادي في الوقت الحاضر، مع جميع الخسائر التي تكبدتها في حربين عالميتين مروعتين.

الثاني: اهتمام ألمانيا بالعنصر الإنساني، فالقطاع الحكومي الألماني ضخم جدا وأول ما يعنى فانه يعنى بالصالح العام للمواطنين كالسكن والضمان الصحي وتعويض البطالة، ويستهلك هذا القطاع حاليا اكثر من نصف الناتج الإجمالي المحلي في ألمانيا، الأمر الذي يؤكد وجود تشنجات في الاقتصاد الألماني، وخصوصا في سوق العمل، حث يبقى تسريح عامل المأني أصعب بكثير من تسريح نظيره في الولايات المتحدة، مع أن العامل الألماني لا يتمتع بحق العمل الدائم كما في اليابان.

هل المخاوف من تعاظم دور ألمانيا واحتمال أن ينقلب هذا التعاظم مرة واحدة إلى ارتفاع شأن عسكري يذكر بما حدث خلال فترة العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين؟

هناك أمران يتوجب الإشارة إليهما ونحن نتحدث عن ألمانيا ومستقبلها وتقاطعاتها وتشارعاتها مع حلف الأطلسي:

أولا: من وجهة النظر التاريخية يمكن القطع بان التقدم التكنولوجي العسكري الأمريكي برمته لا سيما قطاعي الصواريخ والقنابل النووية يعود الفضل فيه إلى الجانب الألماني، وما جرى بعد الحرب العالمية الثانية هو أن أمريكا وروسيا تقاسمتا العلماء وقد كان لأمريكا نصيب وافر منهم، وقد كانوا سببا رئيسا في نهضة صناعة الصواريخ الأمريكية وكذلك فان أبو القنبلة الذرية الأمريكية هو العالم الألماني اوبنهايمر.

ثانيا: لم تعدم العقلية الألمانية ذكاءات الماضي، وربما هذا ما استطاع باعث نهضة ألمانيا الحديثة المستشار الأول بعد الحرب العالمية الثانية «كونراد اديناور»، أن يخفيه عن أعين الحلفاء والمراقبين، فقد كانت ألمانيا دوما وأبدا تحت أعين الروس والأمريكيين قبل أن تتوحد، ومعروف أن كافة مصانع ألمانيا المدنية التي تنتج فخر الصناعات الغربية، يمكنها أن تتحول في ليلة وضحاها إلى مصانع عسكرية قادرة على إنتاج احدث الأسلحة التي يحتاجها الجيش الألماني بأسرع مما يتخيل احد.

هناك جزئية أخرى اكثر إثارة وهي حديث وزيرة الدفاع الألمانية الأسبوعين الماضيين عن حتمية عودة الجيش الألماني إلى سابق عهده وقيامه بأدوار دولية تليق بكرامة ألمانيا وأهميتها الاستراتيجية.

أما النقطة الأخيرة فإن كل هذا الشغب الفكري الألماني يدور من حول نمو متصاعد لتيارات اليمين الأصولي وكثير منها يرفع رايات تستدعي الماضي النازي، تيارات من عينة النازيين الجدد، وجماعة بغيدا العنصرية، إضافة إلى حزب البديل من اجل ألمانيا والذي يعرف بميوله الشوفينية والقومية وقد فاز بنحو مائة مقعد في البوندستاج الألماني في الانتخابات الأخيرة.

هل يعني ما تقدم أن موقف ميركل من الناتو في حقيقته كان على غير ما أظهرته في جدلها مع ماكرون؟

ربما تستعين ميركل بالكتمان في قضاء حوائج الألمان أمس واليوم وغدا، حتى وان كان ذلك يعني في المدى القريب أو المتوسط نهاية حلف الناتو.