أفكار وآراء

الحوار.. الجدوى المستمرة

27 نوفمبر 2019
27 نوفمبر 2019

محمد جميل أحمد -

العلاقة الحوارية للغة من أهم خصائصها التواصلية. فالكلمات من حيث كونها علاقة مركبة بين الفكر والقول حال نطقها في الكلام المفيد، هي في وجه آخر، تعتبر بحالها ذاك حواراً ذاتياً للفرد في علاقته المعقدة باللغة.

وإذا كان البشر بطبيعتهم يرثون اللغة، فيما هم يتعلمونها بطريقة تلقائية كانت أم تعليمية؛ فإن أهم خبرة في الكلام البشري الجماعي هي الخبرة الحوارية.

من هنا؛ تكمن أهمية الحوار في أنه أفضل وسيلة للتواصل بين البشر، ويعتبر ضرورة للوصول إلى مشتركات وقواعد للتفاهم بينهم. كما أن الحوار شرط عقلاني لتطوير علاقات البشر حيال بعضهم البعض عبر المعرفة، من أجل تحقيق غايات وقيم عليا؛ كالتسامح والمعرفة.

الحوار في التعريف اللغوي يدور حول معاني: الرجوع، والتجاوب، والتخاطب، الذي يكون بين طرفين أو أكثر بهدف فهم بعضهم البعض للوصول إلى حقائق في المعرفة والمجتمع والحياة. وهي حقائق لا يمكن الوقوف عليها إلا بعملية الحوار؛ سواءٌ أتوافق عليها الطرفان أو الأطراف عليها أم اختلفوا فيها بالحسنى والسلم.

لقد أصبح الحوار اليوم في عصر ثورة المعلوماتية والاتصال خيارا إجباريا للخروج السليم والآمن من الاختلافات والصراعات بين البشر، وضرورة منهجية للتفاعل مع مختلف قضايا الحياة المعاصرة. سواء بين المجتمع الواحد كذات جماعية، أو مع المجتمعات الأخرى. وبغيره سيكون المجتمع في عزلة عن العالم المعاصر.

وإذا كان التعايش هو صيغة تفاعل تقتضي طرفين أو أطرافاً متكافئة ترسل وتستقبل، وتعطي وتأخذ، وتفيد وتستفيد؛ فإن الحوار هو وسيلة عملية التعايش الإنساني بين فئات المجتمع الواحد من ناحية، وبين المجتمعات مع بعضها البعض من ناحية أخرى؛ الأمر الذي يعني أن نتائج الحوار السليم ستعني قبول التنوع والاختلاف، ونبذ إرادة الإقصاء بين الأطراف المختلفة. ففي هذا العصر لن تفلح علاقات الهيمنة بين البشر ولن تفضي إلا إلى الصراع والدمار في النهاية.

هناك حاجة ضرورية للتأكيد على أهمية الحوار وجدواه، وتأسيس النظم المفعلة للعملية الحوارية من خلال شبكات مختلفة في مؤسسات المجتمع والتعليم والإعلام والمؤسسات العامة. فمن خلال تفاعل تلك المؤسسات إلى جانب منظمات المجتمع المدني يصبح الحوار قاسما مشتركا في نشاطاتها؛ لأن الحوار هو أيضا أحد أهم وسائل الإصلاح التي يمكن من خلالها التعرف على المشكلات، والبحث عن حلول لها.

من أبرز الحيثيات التي ينبغي أن يتفاعل فيها الحوار ضمن الحلول المقترحة لها هي مشكلة التطرف، إذ لابد أن يصاحب الحوار جميع وسائل مكافحة التطرف والإرهاب. فالمتطرف أياً كانت ميوله دينية أم غير دينية، هو شخص لا يعرف منطق الحوار في حياته. ولهذا فإن الحوار معه مهما بدا للبعض غير مجدٍ إلا أنه إذا تأسس وفق منهجية عارفة سيكون له الأثر الكبير في إقناع الشخص المتطرف.

إن قدرة العملية الحوارية على الإقناع هي أسهل وسيلة لتحويل الفرد من شخص متطرف إلى شخص سوي ومعتدل. ومن هنا يصبح الحوار ضرورة إنسانية لتجسيد التفاهم بين الناس مهما اختلفت عقائدهم، وتحليل الأفكار المتطرفة من خلال المعرفة والنقاش وصولا إلى نتائج مرضية تحد من التطرف، وتكشف خطورته وضرره الكبير المخالف لمنطق العقل والدين.

إن الحوار حين يصبح دائرة متكاملة في شبكة علاقات المجتمع؛ ستكون له قدرات وإمكانات حيوية لإشاعة التواصل وصناعة الرأي، وترتيب علاقات المجتمع وفئاته وفق لغة حوارية هادفة؛ إلى جانب قدرة الحوار على قراءة اتجاهات الرأي ورصد اختلافات فئات المجتمع بطريقة مباشرة وليست افتراضية.

إن الحوار كضرورة عقلانية لمطلق حياة البشر، لا تكمن أهميته في إدارة التنوع، وتبادل وجهات النظر فحسب ؛ وإنما أيضا لإدارة الاختلاف في أشد صوره حدة ً وتطرفا كذلك.

إن منطق الحوار، مهما تخيلنا عدم جدواه في بعض الأحيان، سيكون هو الأفضل من كل الخيارات الأخرى لعلاقات البشر بين بعضهم البعض.

ولهذا، لم يكن غريباً؛ اعتماد منطق الحوار كمبدأ تفسيري أول لمطلق العلاقة بين الناطقين والعقلاء. مهما كانت ردود الأفعال التي تستدعي الحوار ويجري حولها النقاش مستنكرة أو غريبة (ما لم تكن عنفاً) لأن في محاورة العاقل احتراماً لكينونته وملاحظة لهويته التي تستحق الحوار.

صحيح، إن مجتمعاتنا العربية تفتقد لمعاني وجدوى الحوار في المجال العام، والعلاقات البينية، ويحضر فيها باستمرار البديل النقيض للحوار، بالضرورة؛ العنف. لكن لأن الحوار هوية حضارية فإن التعقيد الذي تقتضيه عملية صناعة الحوار وتوطينه في مجتمعاتنا عبر المؤسسات التربوية كالأسرة والمدرسة وغيرهما، لا ينفك عن استحقاقات أخرى متصلة به كقيم: الحرية، والتسامح، والمعرفة.

وإذا صح أن ثمة علاقة جدلية بين القيم الثلاث؛ فإن تداخل تلك القيم في العملية الحوارية يشتغل بمنطق الصيرورة التي يتراكم الوعي من خلالها باستمرار.

إن حواراتنا لكي تكون رصينة ومفيدة ينبغي أن لا تعكس الأدواء الخفية المتبادلة للأنا أثناء الحوار فمن كان ذلك شأنه لن يصل في حواره إلى منطق سليم أو نتيجة مقنعة.