أفكار وآراء

أمريكا تبارك حل الدولة الواحدة

26 نوفمبر 2019
26 نوفمبر 2019

ديفيد إجنيشس - واشنطن بوست -

ترجمة قاسم مكي -

إنهار جزء آخر من بناء السياسة الخارجية للحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة هذا الشهر عندما أبطل وزير الخارجية مايك بومبيو حكما قانونيا لوزارته ظل ساريا لمدة 41 عاما. فحوى ذلك الحكم أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة «لا تنسجم مع القانون الدولي».

روج بومبيو لهذا التحول في السياسة الخارجية الأمريكية باعتباره قبولا براجماتيا للحقيقة الماثلة.

وقال يوم الاثنين 18 نوفمبر «ما فعلناه اليوم أننا اعترفنا بالواقع على الأرض». وجادل بأن الولايات المتحدة يمكنها المساعدة على حل المشكلة الفلسطينية بالتخلص من العائق (المتمثل) في فكرة أنه سيكون هنالك، على نحو ما، حل قانوني».

من الصعب دحض تقدير بومبيو بأن السياسة الأمريكية السابقة «لم تنجح». فقد تكاثرت المستوطنات الإسرائيلية الآن بحيث صار من المستبعد أن يكون في مقدور أية حكومة إسرائيلية (أو قوة خارجية) إزالتها بالقوة. كما من الصحيح أيضا أن بناء المستوطنات الذي يتواصل دون هوادة رغم الاحتجاجات الأمريكية والدولية على مدى عقود يجعل حل الدولتين للمشكلة الفلسطينية أكثر صعوبة.

لكن «للسياسة الواقعية» تكلفتها التي لاتقتصر على التخلي عن المبادىء القانونية والأخلاقية فقط. فباتخاذ هذا القرار (من جانب الولايات االمتحدة) يكون قد تم تكريس الفلسطينيين كأكبر الخاسرين في التاريخ الحديث. لماذا؟

أحد أسباب ذلك أنهم اعتمدوا على وعود الولايات المتحدة بإبطال استحواذ إسرائيل على الأرض بالقوة بعد حربي العرب وإسرائيل في 1967 و1973. لقد قدمت تسع إدارات أمريكية متعاقبة نفس التطمينات لكن ثبت الآن أنها جوفاء.

تنطوي هذه الحكاية على درس قاس وهو أن التاريخ يكتبه المنتصرون والقضايا الخاسرة تضيع حقا أحيانا وويل للمهزوم. يمكن أن يشهد الفلسطينيون على هذا الدرس. كما يمكن أن يشهد أيضا قريبا منا هنا في أمريكا الأمريكيون الأصليون(يقصد الكاتب قبائل الهنود الحمر التي أبادها المستوطنون البيض- المترجم) .

لم تكن للولايات المتحدة صدقية تامة كوسيط في هذا الصراع بالنظر إلى علاقتها الوثيقة مع إسرائيل. لكن حتى مجيء دونالد ترامب سعى كل رئيس أمريكي في الفترة الأخيرة إلى لعب دور الوسيط في المفاوضات المتعلقة بمشروع الدولة الفلسطينية. ويبدو أن ذلك العهد مضى وانتهى. فقد انحاز ترامب إلى جانب المنتصرين في قضايا مفتاحية حول وضع الضفة الغربية ومرتفعات الجولان والقدس.

تحدث بومبيو في انشراح متفائل يوم الاثنين عن إيجاد حل سياسي لهذه المشكلة التي وصفها «بالمحيرة جدا جدا». لكن لا يوجد دليل على أن الفلسطينيين مستعدون «للمصادقة» على هزيمتهم باتفاق سلام يتخلى رسميا عن التطلع إلى دولة لها معنى.

كصحفي ظللت أشاهد وعلى مدى أربعين سنة فصول الحكاية (حكاية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي) وهي تتجه نحو هذه النهاية المسدودة. خلال هذه الفترة الطويلة عشت أسبوعا في قرية فلسطينية بالضفة الغربية وتعقبت لاجئين من قرية فلسطينية أخرى إلى شتاتهم (مهجرهم) الدولي وتحاورت مع «مسلحين» فلسطينيين ورؤساء استخبارات. وفي السنوات الأخيرة تحدثت إلى ساسة متحمسين لكنهم في الغالب غير محظوظين. كما قابلت فلاحين فلسطينيين أخفوا علمهم الوطني في غطاء مطرز لصندوق مناديل ورقية وخبأوا خارطة فلسطين خلف إطار صورة.

كما شاهدت أيضا جيلا من القادة الفلسطينيين وهم يهدرون فرصهم في الحصول على دولة وذلك بالمطالبة بالاتفاق المثالي بدلا عن القبول بالاتفاق الجيد الذي يمكن تحقيقه.

لقد فضل هؤلاء القادة الفلسطينيون الحفاظ على كرامتهم بدلا عن المساومة. وربما اعتقدوا أن الإسرائيليين سيصابون بالإعياء في النهاية ويستسلمون لمطالبهم. لكن الأمور لم تمض على هذا النحو.

في بداية تغطيتي الصحفية للشرق الأوسط اعتقد كلا الجانبين أنهما سيحصلان على كل شيء . فقط الإسرائيليون هم من نجحوا في تحقيق ذلك الأمل المتطرف (الذي لا يقبل المساومة).

طوال هذه العقود أجريت مقابلات مع كل رئيس وزراء إسرائيلي بدءا بمناحيم بيجين وتشكل لدي ارتباط عاطفي قوي بذلك البلد. لقد سمعت إسرائيليين كثرا وهم يعبرون عن توقهم إلى السلام وازدرائهم للمستوطنين الذين سدوا طريق الوصول إليه. لذلك اعتقد أن ثمة حزن عميق وسط إسرائيليين عديدين حول قرار بومبيو بالتخلي عن السياسة الأمريكية السابقة ومكافأة من هم أشد عنادا وتصلبا من بين مواطنيهم الإسرائيليين. لكن الحسرة و«النوستالجيا» لا تصنعان سياسة جيدة بأكثر مما تفعل السياسة الواقعية الفجة. على الذين يريدون حلا عادلا للقضية الفلسطينية مواجهة الواقع دون مواربة. ما نراه بوضوح أنه طالما ظلت سياسات ترامب سائدة لن يكون حل الدولتين موضوعا على الطاولة «بأمر» أمريكي.

لا يبدو أن بومبيو يدرك بأن الولايات المتحدة تصادق الآن ضمنيا على حل الدولة الواحدة وتجبر بذلك إسرائيل على اتخاذ قرار مؤلم يتعلق بإنكار الحقوق الكاملة للسكان العرب في هذه الدولة. أو ربما أن العرب الذين أنهكهم هذا الصراع سيحفزون الفلسطينيين على القبول بالهزيمة وبشيء أقل من وضع الدولة.

وكما هي الحال مع الركائز الأخرى للنظام الدولي القديم الذي يفككه ترامب، اعتقد أن الولايات المتحدة ستفتقد إلى دور صانع السلام بأكثر مما قد تتخيل. فالواقع على الأرض يمكن أن يصير قبيحا.