الملف السياسي

استحقاق ضروري.. لا تتوفر مقومات نجاحه!

25 نوفمبر 2019
25 نوفمبر 2019

د. عبد الحميد الموافي -

يمر الشعب الفلسطيني الشقيق في هذه السنوات بمرحلة من أسوأ وأصعب المراحل التي مر بها منذ قرن تقريبا ، أي منذ تدفق الهجرات اليهودية إلى فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وخاصة بعد صدور «وعد بلفور» المشؤوم ، وسوء وصعوبة ، بل وخطورة هذه المرحلة ، ترتبط إلى حد كبير ، بالاختلال الشديد في الموقف الدولي حيال القضية الفلسطينية ، وحيال الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق ، وهي حقوق غير قابلة للتصرف ، وفق قرارات الأمم المتحدة ، من ناحية ،

كما ترتبط أيضا بطبيعة ومعطيات الأوضاع والتطورات الفلسطينية الداخلية ، وبعلاقة القيادة الفلسطينية مع محيطها العربي من ناحية ثانية . وهي جوانب ومخاطر وتحديات تعيها القيادة الفلسطينية ، ممثلة في الرئيس الفلسطيني محمود عباس «أبومازن» ، الذي تحدث خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أكتوبر الماضي عن نيته الدعوة لانتخابات عامة فلسطينية ، كما تعيها على الأرجح القيادات الفلسطينية الأخرى في حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وغيرها من منظمات وفصائل المقاومة والشعب الفلسطيني ، بغض النظر عن المواقف العملية لكل منها ، على الأرض ، ومحاولة التخندق في إطار الأمر الواقع ، حتى وإن كان الأمر الواقع هذا ، يدفع في اتجاه مغاير للمصلحة الوطنية العليا ، التي تعرضت وتتعرض هي الأخرى لجدل و رؤى ومزاعم مختلفة ، بل ومتضاربة إلى حد التناقض في كثير من الأحيان ، وهو تحد خطير آخر يؤثر في قدرة الفصائل الفلسطينية على الالتقاء والعمل المتناسق ، أو الموحد كما هو مأمول ، وذلك كنتيجة لإفرازات الواقع السياسي الفلسطيني ، وواقع الاحتلال الإسرائيلي ، وحسابات التدخلات الإقليمية في الشؤون الفلسطينية ، بشكل غير مسبوق على مدى السنوات الأخيرة .

على أية حال، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على حقيقة أن من أفضل ما تركه الزعيم الفلسطيني السابق ياسر عرفات ، إن لم يكن أفضلها ، أنه استطاع إعادة السلطة الفلسطينية من الشتات إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة مرة أخرى ، كسلطة وككيان وكتنظيم وهيكل إداري قادر على البقاء والاستمرار ، برغم كل ما تعرض ويتعرض له من ضغوط مباشرة وغير مباشرة ، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي .

فالفلسطينيون لهم الآن عنوان وقيادة كما أن لهم رؤية وموقفا يصل إلى العالم بصوت مسموع ، ولولا بعد نظر ياسر عرفات لكانت الفصائل الفلسطينية جميعها تقريبا خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة ، أو تحت الأرض في بعض مدنها في أحسن الأحوال . ومعروف إن الإسرائيليين يلومون أنفسهم كثيرا على ذلك ، لأنهم أدركوا أن الوجود التنظيمي والسياسي والإداري للفلسطينيين الآن ، في الضفة الغربية وغزة ، لا يمكن اقتلاعه ، ولا العودة به إلى ما قبل منتصف التسعينيات أيضا . وبغض النظر عن أي شيء ، فإن هذا الوجود على الأرض هو خطوة على طريق إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة في النهاية ، ولو بعد حين .

ومن هنا تحديدا تبرز أهمية وضرورة إجراء الانتخابات العامة الفلسطينية ، أي الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية ، ليس فقط كخطوة ضرورية على طريق استكمال ، وتصحيح المؤسسات السياسية الفلسطينية الداخلية من ناحية ، وكخطوة ضرورية أيضا للتعاطي الفلسطيني الفعال والمؤثر مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية وتمثيل الشعب الفلسطيني بشكل أكثر قوة ، والتعبير عن مواقفه ورؤاه وخياراته على نحو يتجاوز أية محاولات للتشكيك ، أو للتلاعب بهذا الطرف الفلسطيني أو ذاك ، واجتذابه لخدمة أغراض فرعية لا تخدم الموقف والقضية الفلسطينية بشكل حقيقي أو أمني من ناحية ثانية.

وفي هذا الإطار فإن الانتخابات الفلسطينية، وتقوية وترسيخ هياكل الإدارة والسلطة للدولة الفلسطينية هي خطوة هامة للمستقبل ، لهذا الجيل والأجيال القادمة ، ولعل ذلك هو ما يريد « أبو مازن » القيام به من خلال الدعوة للانتخابات العامة .

وفي ظل الجدل الذي جرى من قبل ، خاصة خلال سنوات 2009 و2010 و2011 و2012 وبعدها حول الانتخابات العامة الفلسطينية والسبل الضرورية لإنجاحها ، وما إذا كانت الانتخابات بمثابة مدخل لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية ، أو أنها تأتي لتعميق وتأكيد تلك الوحدة بعد إنجازها ، فإنه يمكن الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي:

أولا : إنه إذا كان الجميع ، داخل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارجها يتفق على أهمية وضرورة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية ، خاصة بعد انتهاء فترة المجلس التشريعي الفلسطيني الذي انتخب عام 2006 ، وفي عام 2010 من ناحية ، وانتهاء فترة رئاسة الرئيس عباس في 2009 ، الذي انتخب عام 2005 من ناحية ثانية ، واستمرار كل منهما ، المجلس التشريعي الفلسطيني في غزة والرئيس عباس في رام الله ، بسلطة الأمر الواقع ، وإذا كان من المعروف أن القيادة الفلسطينية في رام الله تسعى جاهدة ، ورغم أية عقبات ، إلى استكمال هياكل الدولة الفلسطينية، سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا ايضا - بشكل نسبي بالطبع - ومحاولة كسب أكبر قدر من الاعتراف السياسي الدولي بها وإقامة علاقات مع أكبر عدد ممكن من الدول والقوى الدولية ، داخل المنظمات الإقليمية والدولية وخارجها ، وهو مجهود لم يتوقف برغم ما مرت وتمر به القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة ، إلا أن الأمر يظل مرتبطا ومتأثرا ، إلى حد كبير ، بمدى قدرة السلطة الفلسطينية على مد سيطرتها على كل الأراضي الفلسطينية ، وإنهاء الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة . ومن هنا تحديدا فإنه من المؤكد أن استعادة الوحدة الفلسطينية، والالتقاء بين الضفة الغربية وقطاع غزة مرة أخرى، سواء في حكومة وحدة وطنية، أو في اطار ترتيبات ما يتم الاتفاق عليها ، وتم إنجاز جانب كبير منها ، عبر الوساطة المصرية ، يعد أمرا ، بل شرطا ضروريا ، لإنجاح أية انتخابات فلسطينية قادمة ، تكون أداة للخروج من الواقع الانقسامي الفلسطيني الراهن ، وخطوة لتعميق الوحدة واستعادة التماسك في المجتمع الفلسطيني مرة أخرى . غير أن الواقع يفرض نفسه ، أو لا يزال يفرض نفسه ، خاصة في ظل ظهور الخلاف في ترتيب الأولويات بين عباس وبين فصائل غزة - أي حماس و الجهاد الإسلامي وغيرها - فالرئيس الفلسطيني يريد إجراء الانتخابات في وقت يحدد هو تاريخه ، وهذا حقه السياسي والقانوني ، وفق النظام الأساسي الفلسطيني، وذلك قبل مؤتمر الحوار الوطني ، الذي ترى حماس والجهاد والجبهتان الشعبية والديمقراطية وغيرها من فصائل غزة، أهمية وضرورة تنظيمه قبل إجراء الانتخابات، لمناقشة مختلف القضايا الفلسطينية قبل إجراء الانتخابات. ومع عدم استبعاد أن هذا الموقف قد يكون محاولة لكسب الوقت، أو تحميل السلطة في رام الله مسؤولية عرقلة إجراء الانتخابات، أو حتى الحصول على تعهدات أو تنازلات منها للموافقة على المشاركة في الانتخابات وإجرائها في قطاع غزة، وهناك تفاصيل عديدة يمكن أن تعرقل إمكانية الاتفاق في النهاية، وفي المقابل فإن إصدار عباس لمرسوم يحدد موعد الانتخابات ، من دون التنسيق الأعمق مع حماس وفصائل غزة، لا يضمن بالتأكيد إجراء الانتخابات، وإن كان يمكن أن يكون مدخلا لتحميل حماس والجهاد مسؤولية عرقلة الانتخابات العامة، ومن ثم يبقى الحال كما هو عليه ويدخل الطرفان في جولة أخرى من التصعيد وتبادل الاتهامات وربما فرض عقوبات من جانب رام الله ضد موظفي قطاع غزة ، وكل ذلك يخدم إسرائيل فقط . ولا يخدم لا السلطة في رام الله ولا حماس في غزة. وخبرات السوابق الماضية لا تبعث على التفاؤل، لاعتبارات عديدة ومعروفة أيضا ، خاصة بالنسبة لقطاع غزة ، الذي يصعب على حماس والفصائل العاملة فيه وبعضها يضم عناصر غير فلسطينية ، التخلي عن السيطرة عليه تحت أي ظرف ، ولا بأية وسيلة انتخابية. ثانيا : مع إدراك العقبات الفلسطينية العديدة التي تواجه الانتخابات العامة الفلسطينية ، وهي عقبات قانونية وسياسية وأمنية واقتصادية وإجرائية ، تتطلب الاتفاق بين رام الله وغزة على تفاصيلها ، وهو ما لم تتوفر مقوماته، أو معطياته حتى الآن ، بغض النظر عن تصريحات يحيي السنوار قائد حماس في غزة حول الترحيب بالانتخابات العامة وجعلها «رافعة لتصويب مسارات استراتيجية في تاريخ الشعب الفلسطيني» على حد قوله ، ومن غير المستبعد أنه يأمل في السيطرة على الضفة الغربية من خلال الانتخابات، كما حدث في انتخابات عام 2006 من فوز حماس ورئاستها للمجلس التشريعي الفلسطيني في غزة، ثم سيطرتها العسكرية على غزة في عام 2007 ، فإن هناك مجموعة عقبات أخرى كبيرة ومؤثرة ، تضعها إسرائيل بالطبع أمام أية انتخابات فلسطينية في الضفة الغربية بوجه عام وفي القدس الشرقية المحتلة بوجه خاص . ليس فقط لأن إسرائيل لا تريد للشعب الفلسطيني أن يحظى بانتخابات عامة حرة وشفافة تحسن من صورته على المستوى الدولي ، ولكنها أيضا لا تريد إجراء انتخابات فلسطينية في القدس الشرقية التي تفرض السيطرة عليها ، سواء للحيلولة دون أي تشكيك في سيطرتها على القدس الشرقية المحتلة وضمها ، في مخالفة صريحة للقوانين والقرارات الدولية ، ولكن أيضا لاستثمار اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل اليها قبل عام تقريبا ، وإجراء انتخابات في القدس الشرقية ، يعني اعترافا إسرائيليا بفلسطينيتها، وهو ما تنكره إسرائيل وتسعى لإقناع العالم به، ولذا فإنها لن تسمح بإجراء انتخابات في القدس الشرقية. واذا كان الرئيس الفلسطيني قد أكد عام 2016 ، ابان الانتخابات المحلية الفلسطينية ، انه « لا انتخابات من دون القدس» ، وهو ما ادى الى إلغاء الانتخابات المحلية في الضفة الغربية في ذلك الوقت، فانه من غير المستبعد ان يتكرر هذا السيناريو مرة أخرى ، خاصة وان القبول الفلسطيني بعدم إجراء انتخابات في القدس الشرقية سيكون لصالح اسرائيل، لانه سيكون بمثابة اعتراف بضم اسرائيل لها ، وهو ما لا تستطيعه أية سلطة فلسطينية . وحتى اذا تم تعيين ممثلين للقدس الشرقية في المجلس التشريعي الجديد ، في حالة اجراء الانتخابات جدلا، فإنه من الصعب على الرئيس عباس الإقدام على ذلك ، بغض النظر عن أية حجج يمكن تقديمها ، خاصة وان الفصائل الفلسطينية الأخرى ستزايد عليه ، والأوضاع الفلسطينية ليست في حالة جيدة . ومن المعروف ان السلطات الاسرائيلية عرقلت ، وستعرقل اية انتخابات عامة فلسطينية والادوات والطرق التي تستخدمها في ذلك عديدة ومعروفة ومتكررة . والحالة الوحيدة التي يمكن أن تحد من المعوقات الاسرائيلية ، ولو نسبيا ، هي استعادة الوحدة والتماسك الفلسطيني بشكل حقيقي ، وتعاون مختلف الفصائل للتغلب على تلك المعوقات او الحد من تأثيرها ، ليكون في حده الأدنى إن أمكن .

· ثالثا : في الوقت الذي تسعى فيه اللجنة المركزية للانتخابات الفلسطينية ، للإعداد لإجراء الانتخابات العامة في الموعد الذي يحدده الرئيس الفلسطيني ، وأنها قامت في سبيل ذلك بخطوات طيبة ، منها على سبيل المثال تحديث السجل الانتخابي الفلسطيني ، وتشجيع سكان القدس الشرقية على التسجيل في السجل الانتخابي لممارسة حقهم القانوني في حالة اجراء الانتخابات ، وقيام « حنا ناصر» رئيس اللجنة المركزية الفلسطينية للانتخابات بزيارة قطاع غزة أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة ، واللقاء مع إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس وقادة كبار من الحركة ، الى جانب اللقاء مع قيادات الفصائل الفلسطينية الأخرى في القطاع ، الا انه يمكن القول بأنه لم يتوفر ، حتى الآن على الأقل ، المناخ الإيجابي المواتي في الضفة الغربية وفي قطاع غزة ، وبينهما ايضا ، لتنظيم انتخابات عامة حرة وشفافة، بقدر الامكان على الأقل ، ومن ثم فان الدعوة للانتخابات والتجاوب معها من قبل حماس وبعض الفصائل الفلسطينية الاخرى ، لا يعدو أن يكون ، محاولات تكتيكية وحسابات محدودة لكسر الجمود على الساحة الفلسطينية ، خاصة وان الأولويات تختلف بين رام الله وغزة ، كما ان اسرائيل لن تسمح للأسرى الفلسطينيين بالمشاركة في الانتخابات ، إذا جرت جدلا ، وعلى ذلك فإنه برغم أهمية وضرورة الانتخابات الفلسطينية لإيجاد أوضاع فلسطينية أفضل لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته المشروعة الا أن المعطيات لم تتوفر بعد ، اما التصريحات الإعلامية فإنه لا يتم التعويل عليها و حتى تتوفر الارادة السياسية المشتركة في رام الله وغزة لاجراء انتخابات حرة وشفافة بقدر الامكان ، والقبول بنتائجها ، لن يتغير الوضع الفلسطيني كثيرا والمأمول الا يدخل في جولة أخرى من تبادل الاتهامات والتدهور كما حدث من قبل .