الملف السياسي

مبادرة استراتيجية أم مناورة سياسية؟

25 نوفمبر 2019
25 نوفمبر 2019

صلاح أبو نار -

في السادس والعشرين من سبتمبر أعلن الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنه سوف يدعو فور عودته للضفة الغربية لإجراء انتخابات عامة. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يعلن فيها ذلك، ولكن الإعلان الأخير حظي باهتمام ومناقشات واسعة، لم تنبع منه في حد ذاته بل من منبر إعلانه والسياقات الخاصة واللاحقة عليه. فما الذي يجري الآن؟ وهل نواجه مبادرة استراتيجية تسعى لتخطي المأزق الفلسطيني عبر بناء توافق وطني جديد أم مناورة سياسية أطلقها السياسي الفلسطيني المخضرم؟

ترجع البدايات الفعلية للقرار إلى ديسمبر 2018، ومن هذا التاريخ كان القرار مطروحا للنقاش بوصفه قرارا محتملاً ومنتظرا. في 2 ديسمبر 2018 تقدم رئيس المجلس الأعلى للقضاء الفلسطيني، بطلب فتوى من المحكمة الدستورية الفلسطينية العليا حول تفسيرها للمادتين رقمي 47 و47 مكرر من القانون الأساسي الفلسطيني، والتي تستند إليهما الشرعية الدستورية لوجود مجلس 2006 التشريعي الفلسطيني، رغم توقفه عن الانعقاد وأداء وظائفه الدستورية بعد جلسة 25 أبريل 2007. وصدرت الفتوى في 12 ديسمبر أي بعد عشرة أيام فقط من طلبها، وجاء فيها أن فحوى المادة 47 تفيد بأن شرعية وجود المجلس مقترنة بقيامه بوظائفه التشريعية والرقابية، وبما أنه لم يعقد أي جلسة من هذا التاريخ ولم يقم بأي من وظائفه يفقد صفته كمجلس تشريعي، ولا تمنحه المادة 47 سندا دستوريا بل تنفي شرعيته. وأضافت أن المادة 47 مكرر التي تنص على أن المجلس المنتخب المنقضية فترته، يستمر في عملة لحين أداء المجلس الجديد المنتخب لليمين الدستوري، هي مادة تنظيمية تنظم العلاقة بين المجلسين ولا تنطبق على المجلس الراهن لأنه لا يوجد مجلس ثانٍ منتخب. واستطردت بما أن الولاية الدستورية لمجلس 2006 قد انقضت في 25 يناير 2010، وبما أنه بعد دورة ولايته الأولى توقف عن أداء وظائفه، يعتبر منحلا من تاريخ صدور تفسير المحكمة. وانتهت بمطالبة الرئيس بإصدار قرار بحل المجلس، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة في مدى ستة أشهر من نشر القرار رسميا. وفي 22 ديسمبر 2018 أي بعد عشرة أيام أيضا، أصدر الرئيس قراره بحل المجلس ولكن دون الدعوة لانتخابات جديدة. وبقدر بسيط من البحث سنكتشف أنها عملية سياسية صرفة جعلت المحكمة الدستورية مسرحا لها. لاحظ المعلقون أن طلب الفتوى قدم بعد أيام قليلة من تصريح للرئيس بضرورة حل المجلس، وسرعة البت في الفتوى والاستجابة التنفيذية لها. وأضافوا أن تلك المحكمة معروفه بالتسييس. فلقد صدر تشريع تأسيسها عام 2006 ولكنها لم تتشكل عمليا إلا في عام 2016، وبعد ضمان السلطة الوطنية وجود قضاة موالين لفتح للسيطرة عليها. وأبرزوا سرعة استجابة المحكمة في أكثر من واقعة لرغبات السلطة التنفيذية، وتجاهلها في فتواها غياب أي نص في القانون الأساسي يمنح السلطة التنفيذية حق حل السلطة التشريعية.

ما الذي تسعى إليه تلك العملية السياسية ذات القناع القضائي؟

ليس ثمة إجماع في هذا الصدد في أوساط المعلقين والساسة الفلسطينيين.

يميل فريق للقول إن القرار مجرد مناورة سياسية لن تصل إلى مرحلة الإجراء الفعلي للانتخابات، في إطار ترتيبات فتح لمرحلة ما بعد عباس. كيف؟

علينا أولا أن نعود للوراء قليلا. انتهت انتخابات 2005 و2006 الفلسطينية بانقسام فلسطيني حاد. نجحت حماس في السيطرة على السلطة التشريعية وأصبح من حقها تشكيل الحكومة، ولكن فتح تمكنت من السيطرة على الرئاسة. وحمل هذا الانشقاق معه انشقاقات أوسع. وجدت السلطة الوطنية نفسها في مواجهة تحدٍ داخلي مؤسسي وجذري لمنطق أوسلو، أي المنطق الذي تأسس عليه بنيانها السياسي كله ومعه شرعيتها الإقليمية والدولية. كما وجدت نفسها بالتبعية في مواجهة بدايات حصار دولي وحجب للدعم المالي والسياسي الدولي. وسرعان ما تصاعدت تداعيات الانشقاق، ليحل الشلل بالسلطة التشريعية الجديدة، وينتهي الأمر في منتصف 2007 بانقلاب حماس واستقلالها التام بغزة. وكانت النتيجة نهاية الوجود الوظيفي وليس الدستوري للمجلس التشريعي في الضفة، ولكن حماس حافظت على استمراريته الوظيفية بنفس نوابه المنتخبين إلى جوار وجوده الدستوري.

وبما أن هذا المجلس لا يزال موجودا حتى الآن حاملا معه صفة المجلس المنتخب، وبما أن أعضاء المجلس لا يزالون يحصلون على كل مخصصاتهم المالية بصفتهم السياسية، يظل نظريا حاملا وجها من وجوه الشرعية التي يمنحها له القانون التأسيسي.

وهنا يمكننا فهم التفسير الذي يقدمه هذا الفريق. يفترض هؤلاء أن إلغاء وجود المجلس هو الهدف الوحيد لقرار السلطة، وأنه يندرج في إطار ترتيبات فتح لخلافة الرئيس عباس، وما يقال عن كونه مقدمة لانتخابات تالية مجرد غطاء سياسي. ويحددون أن الهدف المحدد لهذا الإلغاء هو إقصاء عزيز الدويك ومعه حماس من المشهد السياسي للخلافة.

والدويك قيادي بارز من حماس، أُنتُخب رئيسا لمجلس 2006 التشريعي وظل رئيسا له من 2007 حتى الآن في غزة، وبصفته هذه يمنحه القانون التأسيسي حق شغل منصب رئيس الجمهورية حال وفاته، وحتى انتخاب رئيس جديد. ويبدو هذا التفسير غريبا. فمن المستبعد موافقة فتح على هذا في ظل علاقاتها الصراعية مع حماس، ولكن طالما احتفظ المجلس بشرعية وجوده الدستوري رغم تعطله الوظيفي، وواصلت السلطة اعترافها بأعضائه عبر الاستمرار في دفع رواتبهم من 2006، فإن حماس لديها نوعا من الحق الدستوري بالمطالبة بحق الدويك في الخلافة المؤقتة، ومعه القدرة على إرباك ترتيبات الخلافة.

إلا أن التفسير الأكثر انتشارا يرى أن السلطة الوطنية تسعى بالفعل لإجراء انتخابات، للوصول لتوافق وطني جديد يمكنها من الخروج بالقضية الفلسطينية من مأزقها الراهن. لكن هذا المسعى يواجه مخاطر ضخمة، تجعل احتمالات نجاحه أقل كثيرا من احتمالات فشله.

ينبع النمط الأول من هذه المخاطر من التناقض بين آلية الانتخابات وعمق الانشقاق السياسي الفلسطيني. كان من الضروري قبل اللجوء إلى الانتخابات إنجاز قدر أساسي من التوافق السياسي الحقيقي بين فتح وحماس، وهو ما لم يحدث رغم كل مشاريع المصالحات السياسية المتوالية. في مواجهة انشقاق من هذا النمط العميق والهيكلي، لن تقوم الانتخابات فقط بإعادة إنتاجه بل ستنقله أيضا إلى مستوى مؤسسات الدولة، وتلك بالتحديد خلاصة خبرة انتخابات 2005 الرئاسية و2006 النيابية.

والواقع أن القدرة الفلسطينية على بناء وفاق وطني جديد لم تتقدم كثيرا، بينما تصاعد دور المؤثرات الإقليمية والدولية المعادية لهذا التوافق. وسنجد عليه هذا التصاعد في رغبة قوى عديدة في تهميش القضية الفلسطينية ومسؤولياتها، وظهور أنماط جديدة من الصراعات والتحالفات في المنطقة استقطبت اهتمام وموارد القوى الإقليمية وغيرت أولوياتها السياسية، وتغلغل النزعات الشعبوية اليمينية في العالم كله بتداعياتها الدولية وتأثيرها الانقلابي علي التحالف الأمريكي الإسرائيلي.

والأمر المؤكد أن هذا التوافق قابل للتحقق رغم كل هذا، لكنه في حاجة لتضحيات لا يظهر الطرفان استعدادا لتقديمها. يجب على حماس التحرر من مساحة غير هينة من مسلماتها السياسية وانتهاج مزيد من البراجماتية، ولكن فتح أيضا يتعين عليها الإقرار بمأزق مسار اوسلو الهيكلي العميق وتفكيك شبكات المصالح التي تولدت بين نخبها المسيطرة وهذا المسار. ويحدد نفس الفريق نمط المخاطر الثاني في غياب القاعدة القانونية والقضائية اللازمة لإدارة انتخابات ناجحة تقنيا. ويبدو هذا الغياب في عدة ظواهر. منها:

أولا - الخلاف حول تواقيت الانتخابات الرئاسية والنيابية. ينص القانون الأساسي وقانون الانتخابات ومصالحة 2011 علي تواقيتهما. ولكن ليس هناك إجماع سياسي عملي على هذا. تريدهما حماس في توقيت واحد بينما ترى فتح الفصل الزمني بينهما ولكل خيار سلبياته. ساهم الفصل الزمني بين الانتخابات السابقة في ظهور نتائج متناقضة أفقدت النظام وحدته السياسية. ولكن توحيد التوقيت سيحمل أيضا درجة من التوتر السياسي قد لا تتحملها التركيبة الهشة لمؤسسات السلطة، وسيخلق فراغا دستوريا لفترة يحمل معه مخاطر غير هينة.

ثانيا- الخلافات حول القوانين المنظمة للانتخابات. انتهجت انتخابات 1996 نظام الأغلبية وفقا للقانون رقم 16 لسنة 1995. وانتهجت انتخابات 2006 النظام المختلط وفقا للقانون رقم 9 لسنه 2005. وفي 2007 صدر القانون رقم 1 الذي ألغى قانون 2005 وهجر النظام المختلط إلى النسبي الكامل. وأعاد الأمر الصادر بشأن الانتخابات الجديدة التشديد على النسبية الكاملة، وعلى ضرورة إقرار كل المرشحين بخيارات منظمة التحرير السياسية وأنها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين. وكل هذا لا يحظ بإقرار حماس وغيرها من القوى.

ثالثا - تسييس القضاء الفلسطيني. أدى توغل التسلطية في بنية السلطة الوطنية، وتعمق الانقسام الوطني، إلى تسييس مفرط للقضاء. سبق الإشارة لمدى تسييس المحكمة الدستورية العليا أي ارفع درجاته. وجاءت أحداث انتخابات 2016 المحلية لتثبت عمق تسييس القضاء. كان الاتفاق المسبق بين فتح وحماس على حق محاكم القطاع في النظر في الطعون الانتخابية، ولكن فتح انقلبت على الاتفاق ونجحت في الدفع بمحكمة العدل الفلسطينية العليا إلى الحكم بعدم شرعية محاكم القطاع، وإلغاء نتائج الانتخابات فيه.