mahmood2
mahmood2
أعمدة

جرة قلم: أسلافنا وحنين السفر إلى إفريقيا

24 نوفمبر 2019
24 نوفمبر 2019

محمود الرحبي -

«راعي البوم عبّرني.. كم نولك خبّرني.. وين رايْح، ممباسة؟.. عبّرني، عبّرني»...

هذا نشيد عماني قديم أو وصلة غنائية تفيض حنينا، وراعي البوم هو صاحب القارب الذاهب إلى ممباسة في إفريقيا «قبل أن تلحق بكينيا» حيث كان يقصد العمانيون ويقيمون. و(النّولْ) تعني السعر. و(عبّرني) معناها اعبُر بي. وبهذا يصير المقطع بالعربية الفصحى كما يلي: يا صاحب القارب اعبُر بي. أخبرني كم سعرك. هل أنت ذاهب إلى ممباسة؟ اعبر بي (إذن) اعبر بي.

وكانت الرحلة المرهقة من ميناء صور إلى زنجبار «قبل أن تلحق بتنزانيا» تقتضي المكوث طويلا، وأحيانا مكوثا أبديا، لا يتوقف عند جيل أو سلالة. في الحقيقة، كان سفر أجدادنا إلى زنجبار يشبه العودة إلى الوطن؛ كان رحلة دائرية عجيبة، من وطن أصلي إلى وطن لا يقلّ عنه «أصالة»، حيث سيجد المسافر من عمان -السلطنة إلى زنجبار -السلطنة عائلة عمانية أخرى ممتدة الجذور بدورها يشدها الحنين بين الهنا العماني والهناك الإفريقي، والعكس صحيح. سيجد عمانيين هم أهل له أو جزء من أهله؛ إنه يحمل الحنين إلى زنجبار، تماما مثل المسافر الذي يحمل، بدوره، حنينا إلى بلده. ومن هناك، من زنجبار، يبثّ حنينه إلى وطنه الأصلي.

وبالنظر إلى هذه العلاقة الوطيدة بين أجدادنا العمانيين وإفريقيا كان طبيعيا أن تحفل كتب التراث العماني بعشرات القصائد والأهازيج والأناشيد التي بث فيها مسافرون أو مقيمون لوعتهم. فهو «المسافر» هناك يحنّ إلى هنا وهو هنا يحنّ إلى هناك، في دورة حنين طويلة ولانهائية.

«اعطيني بسرة خنيزي ما بي زنجبار».

إن قراءة الفقرة السجعية السابقة المتعلقة بشغف السفر إلى ممباسة تفضي بنا إلى ثراء وغنى في المعاني والدلالات أساسها النزوع النوستالجي، كما تقودنا القراءة التأملية للأبيات الشعبية بحنين العودة إلى عمان، تقودنا إلى ثراء آخر من الدلالات والمعاني. فالبوم -أو القارب- يرمز إلى العبور، إنه ثابت ينتظر من يركبه. والمسافر يناشد المركب الرابض في البحر أن يعبر به إلى ممباسة.

لا نسمع هنا إلا «حوارا» من طرف واحد، هو حديث الراكب إلى صاحب المركب. وفي الحقيقة فهذا الحديث مونولوغ، حوار مع الذات، أو هو حوار مع المركب الرابض في البحر. إنه حوار لا يُقصد منه تبادل الأحاديث، وإنما بث فرحة بالسفر إلى ممباسة، الشقيقة المجازية لزنجبار.

يسأل الراكب، كذلك، عن «النّولْ» أو السعر دون أن ينتظر جوابا؛ إنه يعرف كل شيء: السعر ووقت الانطلاق، ولكن لا بد من بثّ لواعج فرحة الرحيل وأشواقه، حتى وإن كان لا ينتظر من هذا البوح بمكنون قلبه ردا أو جوابا. بينما في المقطع الأخير، والذي يقابل مقطع الرحيل، بالحنين إلى العودة،(عطيني بسرة خنيزي ما بي زنجبار) نجد هنا القائل مستعدا لأن يبدّل زنجبار بتمرة غير ناضجة أو وشيكة النضوج فقط لأنها عمانية، إنه يقول -بلسان حاله- إنني مستعد لأن أبدل زنجبار كلها بأي شيء قد يأتيني من بلادي، التي انطلقت منها، ولو كان مجرّد «بسرة خنيزي» لم تنضج بعد!