Untitled-175
Untitled-175
المنوعات

مرفأ قراءة.. عن «الأفغاني» المصلح الذي ظُلم حيا وميتا!

23 نوفمبر 2019
23 نوفمبر 2019

إيهاب الملاح -

■ ما أكثر الشخصيات في تاريخنا الفكري والثقافي التي تعرضت لظلم بيّن بسبب جرأتها وبسبب أفكارها وبسبب أدوارها المؤثرة التي تتجاوز حدود زمنها؛ وفي تاريخنا الفكري الحديث لن نجد شخصية تعرضت لمثل ما تعرضت له شخصية السيد جمال الدين الأفغاني المصلح المجدد صاحب أول صيحة مقاومة فكرية ضد الاستعمار وضد الاستبداد السياسي والاقتصادي ومؤسس مدرسة التجديد والإصلاح والنهضة في الفكر العربي والإسلامي التي سيتخرج فيها من قدر لهم أن يكونوا طليعة هذه النهضة ليس في مصر وحدها إنما في العالمين العربي والإسلامي كليهما.

وليس هناك اختلاف بين مؤرخي الفكر الإسلامي الحديث، والفكر العربي المعاصر، على إطلاق مفهوم «الإصلاح الديني» على تلك الحركة النشطة التي أعطاها قوة دفع كبيرة جمال الدين الأفغاني (1838-1897)‏، وتلاميذه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تبلور فكر الإصلاح في ذلك القرن، على يد كوكبة من المثقفين المفكرين؛ أمثال رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد إقبال. وعلى الرغم من اختلاف انتماءاتهم المذهبية، فإنهم سَعْوا جميعًا إلى الاجتهاد من أجل تحقيق الإصلاح الذي يعبر عن «العودة والتجديد في ذات الوقت»، إصلاح يرفض الاستعمار والاحتلال، ويعترف بقيم الحضارة الغربية، ويتعامل مع تحديات العصر بموضوعية وعقلانية؛ مركزا على أهمية التعليم والاجتهاد ووحدة المسلمين المعرفية والثقافية والفكرية.

وإذا بحثنا ونقبنا جيدا وأمعنا البحث والتنقيب ما استطعنا فلن نجد اسما من الأسماء التي شغلت مصر والشرق العربي كله خلال ما يقرب من نصف القرن (بالتحديد القرن التاسع عشر) إلا وله علاقة بهذا الرجل؛ علاقة صحبة أو مودة أو تلمذة أو تأثر. ولن تجد مجالا من مجالات العمل العام في تلك الفترة إلا وجدت لهذا الرجل قدما فيه، وأثرا في أصحابه، في السياسة والأدب والفكر والصحافة والثورة.

كان محمد عبده تلميذه وصفيه، وكان البارودي رائد الشعر الحديث ومجدده من أخلص تلاميذه، وعبد الله النديم الزجال ونديم إسحاق الناثر ويعقوب صنوع المشخصاتي كلهم كانوا من أصحابه وخلصائه، وكان الزعيم الكاريزماتي سعد زغلول من مستمعيه.

كل هذه الشخصيات الكبيرة والمؤثرة في تاريخ النهضة الفكرية الحديثة، وسواها، كانت تدور حول جمال الدين الأفغاني كأنه الكوكب المتألق المشع، وهم التوابع الخلص أو كأنه كما وصفه محمد عبده «حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل قطر بما يشاكله».

■ كانت شخصية جمال الدين الأفغاني (1838-1897) محل جدل كبير وواسع ومثير، بل غامض أيضًا في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي الحديث، ليس على صعيد السيرة الذاتية فقط، إنما أيضًا على صعيد الأفكار والتأثير في مجريات حركة الإصلاح الديني التي شهدتها مصر ومن ثم العالم العربي كله في القرن التاسع عشر.

وأثارت شخصية الأفغاني اهتمام العديد من المؤرخين في الشرق والغرب على السواء، فراح البعض يقيم الدليل على أصوله الفارسية الشيعية تارة، وراح البعض الآخر يقيم الدليل على أنه كان يعمل لحساب بريطانيا تارة أخرى، وروسيا تارة ثالثة، والدولة العثمانية تارة رابعة، وهي كلها جهات تناقضت مصالحها وتضاربت، ولا يستقيم منطق قبولها استخدام من عمل لصالح خصومها.

ومهما كان الأمر، فقد كان جمال الدين الأفغاني شخصية فريدة في عصرها يحيطها الكثير من الغموض، كما يصفها المرحوم الدكتور رؤوف عباس، تنقل بين فارس، وأفغانستان، والهند، والحجاز، وإسطنبول، ومصر، ولندن، وباريس، وبطرسبورج في روسيا، طالت إقامته في بعضها، وقصرت في بعضها الآخر، وغادرها في معظم الأحوال مطرودًا مبعدًا بسبب نشاطه السياسي، ولم يحط عصا الترحال إلا في مصر التي عاش فيها ثماني سنوات كانت من أخصب سني حياته، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وكذلك إسطنبول التي قضى فيها سنوات عمره الأخيرة، ومات ودفن بها، عندما استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني، ليستغل دعوته للجامعة الإسلامية لخدمة أغراضه السياسية، فعاش تلك السنوات (أسيرًا في قفص من ذهب) مُحاطًا بجواسيس السلطان، ممنوعًا من التحرك والسفر حتى قضى نحبه.

ولقد تناوشت شخصية الأفغاني الأقلام والكتابات، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تعددت فيها الصور والإشكالات حتى التناقض؛ فمن قائل إنه أحد مجددي الإسلام، ورافع لواء التجديد والإصلاح، والمنادي الأول بالاستيقاظ من السبات الحضاري لأمم الإسلام، ومن قائل بأنه كان عميلا وخائنا، ودسيسة على الإسلام والمسلمين، وأنه كان يقول بقول الدهرية، وينكر الخلود بعد الموت، وأنه كان «ماسونيا» بل وصل الأمر إلى اعتباره «صهيونيا» أيضًا!! فضلًا على ما اتهم به من الانخراط في أنشطة حركية سرية؛ تراوحت بين المعارضة السياسية الملتهبة والتنظيم المسلح!!

وهناك من نأى بنفسه عن التطرف والغلو واجتناب الأحكام التي بلا دليل، وقرر التركيز على أفكار الرجل من واقع كتبه ومؤلفاته، وما ثبت يقينًا أنه صادر عن الشيخ الأفغاني.. وهو ما أميل إليه وأعتبره الأقرب إلى الصواب.

■ لقد كُتب الكثير جدًا بالعربية، وبلغاتٍ أخرى كثيرة عن الأفغاني؛ وإذا غضضنا البصر عما يقوم منها على النقل والتقليد وترديد روايات وشبهات بلا دليل أو نظر عقلي؛ فيمكننا أن نقسمها إلى طائفتين:

الأولى؛ هي التي أرّخت وسجلت وقائع حياة وسيرة وأفكار السيد الأفغاني، وفق رؤية علمية واضحة ومصادر معتمدة وموثوق فيها، وبمنهج واضح، ولدينا للأمانة عددٌ معتبر من الكتب المرجعية في هذه الدائرة..

(راجع مثلًا ما كتبه محمد عمارة، في فترة إنتاجه النزيه المحايد، باستفاضةٍ في تقديمه ودراسته للأعمال الكاملة للأفغاني التي أخرجها في 4 مجلدات، وما نشره من كتبٍ منفصلة عن السيد الأفغاني، حوالي 3 كتب كاملة، وهي بالمناسبة تغني وتفيض، وكذلك الباب القيّم الذي خصصه المرحوم أحمد أمين للسيد الأفغاني في كتابه المهم «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، وترجم له ترجمة تفصيلية وافية لم يترك فيها مجالًا لمزيد، ولا أنسى الفصل المركز القيّم الذي كتبه المرحوم الدكتور عثمان أمين أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة عن جمال الدين الأفغاني في كتابه المرجعي «رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي». وما كتبه أيضًا أستاذ الفلسفة المعروف الدكتور حسن حنفي، بعنوان «مئوية جمال الدين الأفغاني» وفصّل فيه القول عن سيرة وأفكار جمال الدين الأفغاني.. وعدا ذلك، الكثير).

أما الطائفة الثانية، فهي التي تضم الكتب والمقالات التي اتهمت الأفغاني في دينه، ونسبه، وجنسيته، وبالجملة، نظرت إليه لا باعتباره أحد مجددي الإسلام ورافعي لواء النهضة والتمدن في العصر الحديث؛ بل باعتباره باطنيا شيعيا ملحدا (هكذا!) متآمرا على الإسلام وأهله! وللأسف فقد قدِّر لهذا التيار أن يَشغُب على سيرة جمال الدين الأفغاني، وأن يؤثر في جموع البسطاء والمتدينين؛ لأنه يقوم في انتشاره وتأثيره على السماع لا القراءة، وعلى النقل لا التثبت، وعلى الانتقاء لا الفحص والتدقيق.

راد هذا الاتجاه، وللغرابة، اسمان أحدهما يعد ممثلا للمرجعية الفكرية السلفية المحافظة في أشد صورها محافظة وانغلاقًا، وهو المرحوم الدكتور محمد محمد حسين الأستاذ بجامعة الإسكندرية في كتابيه الخطيرين «الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر»، و«الإسلام والحضارة الغربية»، وعنه ردد آراءه واتهاماته للأفغاني كلُّ دعاة السلفية المعاصرة، وكل رجال الدين والوعاظ وخطباء المساجد الذين يهاجمون حركة التجديد الفكري الإسلامي في العصر الحديث، وينظرون إليها بعين الريبة والشك. أما الثاني، وللغرابة الشديدة، فكان ليبراليا مغاليا في ليبراليته، وهو الدكتور لويس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي، ومؤرخ الفكر المصري الحديث، وهو مثقف مصري كبير وقدير، وله أعمال تشهد بواسع اطلاعه وغزارة معرفته، لكن عُرف عنه تطرفه في آرائه القومية، وجنوحه الشديد في قراءة وتفسير حركة الفكر العربي الحديث. ولقد حَمَل لويس عوض على جمال الدين الأفغاني حملة عنيفة بسبب دعوته للجامعة الإسلامية والرابطة الدينية! (وللحديث بقية)