أفكار وآراء

مؤسسات عربية مأزومة في انتظار الخلاص

23 نوفمبر 2019
23 نوفمبر 2019

د. عبدالعاطي محمد -

الحكومة من أبرز مؤسسات أي دولة، وبحكم المهام الموكولة لها من الطبيعي أن تتغير تشكيلات أعضائها بين وقت وآخر، وذلك لأنها تتشكل بناء على سياسات عامة، ولتحقيق أهداف محددة، وكلاهما أي السياسات والأهداف يتعرض للتطوير حسب الإنجازات القومية التي تتحقق والتحديات التي تستجد.

ولكن من غير المعتاد، ولا الطبيعي، أن تصبح الحكومة في حد ذاتها موضوعا لأزمة خانقة تكون سببا في اندلاع موجات عنيفة من الاحتجاجات، إلا أن هذا حدث ويحدث في أكثر من بلد عربي في الآونة الأخيرة، مما يفتح النقاش حول الأسباب التي جعلت موضوع الحكومة فيها يخرج عن سياقه الطبيعي، والشاغل الأكبر لرأيها العام، وحول السبيل للخروج من هذا الوضع المأزوم.

وقد يرى البعض أن ما جعل موضوع الحكومة يتصدر المشهد الاحتجاجي هو أن هناك حالة شبه عامة من عدم الاستقرار السياسي تمر بها المنطقة العربية منذ عدة سنوات، ومن ثم ليس غريبا أن تكون الحكومة في وضع الاتهام وبناء عليه التعرض للصدام الجماهيري بأشكال مختلفة، فالحكومة بحكم وظيفتها السلطة المسؤولة عن إدارة الدولة وتطبيق القانون وتنفيذ متطلبات خطط التنمية، وفي أبسط الصور هي المسؤولة عن رضا الشعب من عدمه.

ولا شك أن هذا صحيح إلى حد كبير، ولكن ما كان له أن يصبح قضية أساسية تفجر الأوضاع الاجتماعية والسياسية لو كانت الاحتجاجات محدودة المطالب ومؤقتة من حيث الزمن، فعندما يكون الأمر هكذا في أي بلد من البلدان يجرى تغيير الحكومة لتتولى التجاوب مع المطالب المستجدة، وتعود الأوضاع إلى الاستقرار مجددا، إلا أن الحدة والشمولية والاستمرارية التي اتسمت بها الاحتجاجات، سواء في الجزائر أو العراق أو لبنان على سبيل المثال، نقلت الموضوع نقلة جذرية تختلف عما يجري في الحالات المعتادة من تجارب الأنظمة الحاكمة وردود فعل الشعوب تجاهها، حيث بدا متصلا بما هو أوسع نطاقا أي بتغيير معالم النظام السياسي ككل.

المسألة هنا لم تعد مجرد المطالبة بتغيير في الأشخاص، ولا حتى في السياسات، وإنما في تكوين النظام السياسي جملة وتفصيلا، وما الحكومة في هذه الحالة إلا الوجه المباشر المعبر عن هذا النظام، بينما المطلوب تجاوز هذا الأمر إلى ما هو أبعد أي تغيير النظام. ولكي تتبلور الدعوة إلى تغيير النظام كان من المنطقي أن تتركز على الصدام مع الحكومات القائمة، ليس لتغييرها بالطريقة المعتادة وكفى، ولكن للانطلاق منه إلى تغيير النظام كله.

لو نظرنا إلى الأسباب التي نقلت موضوع الخلاف على الحكومات هنا وهناك إلى التغيير العميق والشامل وليس مجرد تشكيل حكومات جديدة، مهما قدمت من وعود تفي بمطالب المحتجين، فسنجد أنها تتنوع ما بين الأسباب المؤسسية، أي المتعلقة بالمؤسسات السياسية القائمة، وأخرى مرتبطة بالأداء الحكومي ذاته، وثالثة تتصل بالخبرات الشعبية وبوسائل الحشد الجديدة التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي.

فأما بخصوص الأسباب المؤسسية، كان واضحا أن لا البرلمانات ولا الأحزاب ولا النقابات قامت بدورها المنشود في الرقابة على الحكومات المتتالية من ناحية، ولا في توفيرها للكوادر السياسية التي تأتي للبلاد بحكومات رشيدة من ناحية أخرى.

والملفت أن الأوضاع، وعلى مدى زمني ليس بالصغير، قادت إلى نتيجة مختلفة هي الوقوف في صف الحكومات التي انتفضت ضدها الاحتجاجات. فالأحزاب في العراق وقفت في صف الإبقاء على الحكومة وضد رغبة المحتجين الذين طالبوا بتغييرها، كما أن البرلمان لم يقف ضد الحكومة، ولم يرشح عن الكتل النيابية أنها كلها أو حتى جزء مؤثر منها تبنت مطالب المحتجين أو شاركت في الاحتجاجات، على الرغم أن نوابها اختارهم الشعب، وكان من المفترض بداهة أن يقفوا إلى صف ناخبيهم، لا أن يدافعوا عن بقاء الحكومة أو يفضلون الصمت بينما الميادين تشهد ما يشبه الثورة وفي لبنان حدث نفس الموقف حيث لم تشارك الأحزاب في أعمال الاحتجاجات، بل إن التيار الوطني الذي ينتمي له الرئيس عون نظم مظاهرة دعم وتأييد له. كما هدد حزب الله بالنزول (ضد المحتجين) عندما يستلزم الأمر ذلك. وعندما تقدم الحريري (رئيس الوزراء قبل تقديم استقالته) بخطة للإصلاح كان يعبر عن توجهات حكومته آنذاك لا عن تيار المستقبل.

وفي الجزائر توارت الأحزاب الكبرى عن احتجاجات الشارع التي قاربت على دخول العام، وقام بعضها بترشيح شخصياته للانتخابات الرئاسية (ديسمبر 2019) مع علمه مسبقا بعدم قبول الشارع لهذه الانتخابات، أي أنها أحزاب أخذت - في العموم - موقفا مخالفا لخط الاحتجاجات.

وتأكيدا لما سبق فإن المحتجين في الحالات الثلاث طالبوا بتغيير ليس فقط الحكومات وإنما أيضا تغيير قوانين الانتخابات العامة وإجراء انتخابات نيابية جديدة، والمعنى هنا أن جماهير المحتجين لا تثق في الحكومة ولا في الأحزاب فقط وإنما أيضا لا تثق في النواب الذين انتخبوهم، ولذلك فإن الشعار المشترك في الأمثلة الثلاثة هو إعادة بناء النظام السياسي حتى تأتى مستقبلا الحكومات المنشودة.

وفيما يتعلق بالأداء الحكومي فقد وضح أن هناك مشكلتين أججا المشاعر هما، أولا توجيه تهم الفساد للكثيرين من المسئولين سواء كانوا جددا أم قدامى، بمعنى استغلال المناصب في تحقيق ثروات غير مشروعة، والسكوت عليهم من جانب الحكومات المتتالية.

وقد تابع الرأي العام العربي الحديث المتكرر عن هذه الظاهرة في البلدان الثلاث خلال مشاهد الاحتجاجات، وما زاد من غضب المحتجين أن قطاعا واسعا من الشعب ظل يعاني من وطأة المعيشة بينما شهد تمتع القلة برفاهة العيش، والانطباع الذي ترسخ هو أن ثروات الشعب قد ذهبت لغير مستحقيها وبشكل غير شرعي، كما ساد الانطباع بأن الفساد (سوء استغلال السلطة أيا كان مستواها) قد امتد إلى مؤسسات الدولة بما فيها القضاء(حالة العراق ولبنان)، ليس خافيا أن تقارير المؤسسات الدولية المختصة برصد الشفافية، أو الحد من الفساد قد وضعت حكومات هذه الدول، وغيرها كثر في منطقتنا العربية، في مرتبة متدنية.

وأما المشكلة الثانية فهي التباطؤ في مسارات الإصلاح وعلى مدى زمني طويل، فمع أن هذه الحكومات وغيرها كثر أيضا قد وضعت برامج جادة للإصلاح على المستوى الإداري للدولة وأقامت مؤسسات معنية بالرقابة، إلا أن النتيجة العملية جاءت ضعيفة مما زاد من شعور الغالبية الكادحة بالإحباط وبناء عليه تصاعد الشعور بالغضب.

وبوجه عام ترتب على ذلك انعدام الثقة بين الشعوب والحكومات، وهو ما أشار له صراحة الرئيس اللبناني عون في إحدى مناسبات التعليق على مستقبل الأزمة التي تعرض لها النظام السياسي اللبناني.

بقي نوع ثالث من الأسباب يتركز فيما يمكن تسميته بتأثير الخبرات الإنسانية على تشكيل الاتجاهات من الأزمات. فالمعروف أن التعلم يختلف عن التعليم مع التأكيد على أهمية كل منهما، وذلك لأن التعلم هو نشاط إنساني للحصول على المعرفة بقصد تطوير القدرات الذاتية (اكتساب المهارات والمعارف المختلفة وتنمية الاتجاهات.. إلخ)، بينما التعليم هو العملية المنظمة والطويلة نسبيا للحصول على المعرفة من خلال المعلم أو المدرس، ولا شك أن التعلم لا يحدث إلا بالحصول على التعليم أولا بالضرورة ولكنه يتحقق بوسائل أخرى مكملة، والتعلم يعد النتيجة النهائية للتعليم (التنمية البشرية المستدامة).

والقصد من الإشارة إلى هذا الموضوع هو أن الخبرة الإنسانية على مستوى الفرد والمجتمع هي من الوسائل المهمة لتحقيق التعلم، وتأتي هذه الخبرة بوسائل شتى من أولها التعلم والقدرة على القراءة، ولكنها في وقتنا المعاصر لها وسائل جديدة منها مشاهدة وسائل الإعلام المرئية (التعلم من الصورة) وتصفح مخرجات وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، كما أصبحت التجارب البشرية متاحة للمعرفة من جانب الجميع خصوصا عبر الشبكات الرقمية.

ومن نتائج هذا التطور الإنساني المذهل في تنويع مصادر المعرفة أن المواطن المعاصر لم يعد معتمدا على المؤسسات للتعبير عن حقوقه ومطالبه وإنما على ذاته التي تضخمت بفعل ما تمنحه له وسائل التواصل والشبكات الرقمية من مساعدة ولا شك أن ذلك أدى إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بدور المؤسسات التي لا غنى عنها لأي مجتمع متحضر، ولكن هذا هو الواقع الذي يصعب إنكاره، وللحق كان ولا يزال من المشكلات التي تعوق أداء الحكومات، وبالمقابل فإن التحكم الرشيد في هذه المعطيات ساعد حكومات عديدة على تجنب التأثيرات الضارة لهذه الوسائل وحافظ على حيوية دور المؤسسات.

إن تجنب هذه الأسباب يساهم إلى حد كبير في إيجاد حكومات رشيدة تحظى بالرضا الشعبي، وفي أن يظل تغيير أعضائها أمرا معتادا وطبيعيا، لا أن تصبح في حد ذاتها موضوعا للجدل ومبعثا لاندلاع الاحتجاجات.

وقلنا سابقا أن الوقاية المبكرة من أسباب الاحتجاجات ضرورة لا غنى عنها لأي نظام سياسي ينشد القيام بوظائفه الأساسية وهي التكامل القومي والتنمية السياسية والمشاركة والأمن، وما الحكومات إلا واحدة من سلطات ثلاث بجانب التشريعية والقضائية، أي لا تعكس بالمطلق كامل النظام السياسي.