أفكار وآراء

الصراع على المياه في العالم : مسارات إيجابية وأخرى خطرة

22 نوفمبر 2019
22 نوفمبر 2019

صلاح أبونار -

يواجه العالم منذ عقود أزمة مياه حادة مهيأة للتصاعد، وفي تصاعدها تحولت في مساحة منها إلى توترات وصراعات إقليمية. وتبدو الأزمة والتوترات النابعة منها مرشحة لانتهاج مسارين. مسار للتهدئة والإحاطة عبر إتباع جملة من السياسات المائية الجديدة. ومسار للتصاعد عبر متابعة السياسات المائية القديمة، والتصعيد عبر مواصلة المواجهة الإقليمية وفرض الطرف الأقوى لإرادته السياسية، وربما الانزلاق إلى حرب مياه في المناطق الساخنة. ورغم كل الضجيج الراهن حول حروب المياه، يبدو أن مسار التهدئة والإحاطة الأكثر رجحانا وعمومية، في مواجهة المسار الثاني الذي تبدو احتمالاته محدودة وربما استثنائية.

يمكننا أن نرصد المقدمات والعوامل المولدة لتلك الأزمة والتوترات الإقليمية الناجمة عنها داخل ثلاثة سياقات:

سنجد السياق الأول في التراجع الحاد في عرض المياه العالمي. تخبرنا تقارير الأمم المتحدة بالنسبة للمياه السطحية، أي مياه الأنهار والبحيرات، أن جميع بلدان العالم الواقعة بين خطي عرض 10 - 40 شمالا تكاد تكون متأثرة بندرة المياه، ومعها جنوبا غرب امريكا الجنوبية واستراليا وجنوب إفريقيا. وتضيف: أن حوالي 1.9 مليار شخص يعيشون في مناطق يحتمل أن تواجه ندرة شديدة في المياه، وبحلول عام 2050 يمكن أن يرتفع عددهم إلى ما بين 2.7 -3.2 مليار شخص. وتنوه أن هناك 3.6 مليار شخص أي نصف سكان العالم، معرضين بالفعل لندرة المياه على مدى شهر كامل خلال العام. وتمنحنا نماذج للتدهور المريع لبعض البحيرات. انخفض منسوب مياه بحر ارال الروسي بمقدار 15 مترا، وتبلغ مساحة بحيرة تشاد الآن عشر ما كانت عليه من أربعين عاما. وفيما يتعلق بالمياه الجوفية تذكر نفس المصادر أن ثلثي مستودعاتها في العالم تعاني من الإجهاد المائي نتيجة تعاظم معدلات السحب بما لا يتناسب مع معدلات التغذية.

وتذكر أرقام حديثة للبنك الدولي وجود 2.2 مليار في العالم ليس لديهم خدمات مياه شرب آمنة، و3 مليارات ليس لديهم مرافق للاغتسال. وسوف نجد اكثر من عامل خلف تدهور عرض المياه. ارتفاع الطلب المطرد على المياه مع تزايد السكان ومتطلبات النمو الاقتصادي، والسياسات الخاطئة لإدارة الموارد المائية المسؤولة مثلا عن ما حدث في بحيرة تشاد وبحر ارال، وتلوث المياه الناتج عن سوء الإدارة وعمليات الصرف الصناعي في المجاري المائية، والتدهور في المناخ واختلال النظم الإيكولوجية وما صاحبهما من ارتفاع حرارة وتصاعد في معدلات التبخر وتراجع معدلات الأمطار، وقصور النظم الإيكولوجية عن الحفاظ على الدورة الطبيعية القديمة لتكوين مياه المصادر المتجددة. وسنجد السياق الثاني في نمط التشارك الدولي في الأحواض المائية الدولية، أي الأنهار والبحيرات ومستجمعات المياه الجوفية التي تتشارك فيها عدة دولة. يشترك في هذه الأحواض 145 بلدا تضم اكثر من 90% من سكان العالم، منها 30 بلدا تقع بالكامل داخل هذه الأحواض. وعلى سبيل المثال تضم الأحواض المائية النهرية لأنهار الدنيبر 19 دولة، والكونغو 13 والنيل 11، ولكل من الأمارون والراين والزامبيزي 9 دول والأردن والجانج والفرات 6 دول. أما أحواض البحيرات المائية الدولية فتضم على سبيل المثال تشاد وأزال وتتشارك كل منهما 8 دول. وفي أوروبا وحدها يوجد اكثر من مائة مستودع جوفي عابر للحدود، وخارج أوروبا سنجد مثلا مستودع غواراني ويجمع الأرجنتين والبرازيل وباراجواي وأوروجواي، وخزان الحجر الرملي النوبي وتتشاركه مصر والسودان وليبيا وتشاد. وهناك 39 دولة تأخذ اكثر من نصف مواردها المائية العذبة من أحواض تقع خارج حدودها، وفئه ثانية من الدول تأخذ أكثر من 75% منها. ويفرض هذا التعدد عوامل تناقض وصراع أكيدة. منها ارتفاع وتعدد الطلب على الموارد المائية الآخذة في التناقص، ومنها التناقضات في سياسات النمو الاقتصادي بما تحمله من تباين في استخدام المياه، ومنها الاختلاف في الموقع الجغرافي من الأحواض النهرية وما يفرضه من تباين في القدرة على التحكم في تدفقاتها بين دول المنبع والمصب، ومنها تفاوتات البنية السياسية بين دول الحوض بما تحمله من تفاوتات في موازين القوى والاستراتيجيات السياسية وبين الحوكمة.

وسنجد السياق الثالث في ضعف تطور الهياكل القانونية والمؤسسية المنظمة للعلاقات والمنازعات المتصلة بالأحواض المائية الدولية.

تتمثل اهم معالم الهيكل القانوني في مبادئ هلسنكي 1966 التي أقرتها الرابطة الدولية للقانون الدولي، وأحكام لاهاي التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في 1974، واتفاقية الأمم المتحدة لعلم 1977 بشأن استخدام المجاري المائية المشتركة. ويقر هذا الهيكل القانوني عدة مبادئ مهمة: الانتفاع العادل والمتناسب بالحوض المائي، وعدم الحاق الضرر بشركاء الحوض، والإخطار المسبق بالمشاريع المغيرة لمسار الحوض، وضرورة التفاوض حولها. إلا أن هذا الهيكل القانوني يواجه مشاكل ضخمة. فهو من جهة أولى ضعيف التطور قياسا على فروع القانون الدولي الأخرى. حتى الآن لم يوقع على اتفاقية 1977 سوى 14 دولة. ولم يحظ بدعم فقهي من أحكام القضاء الدولي، فعلى مدى 55 عاما لم تنظر محكمة العدل الدولية سوى قضية واحدة حول الأنهار الدولية. وهو من جهة ثانية يتناقض مع قاعدتين عرفيتين تعتمدهما دول الحوض المائي في إدارة منازعاتها: السيادة الوطنية المطلقة على الموارد المائية الجارية في حدود الدولة، وحق التملك المسبق ويعني أن الدولة التي اعتادت تاريخيا على تلقي حصة معينة من مياه المجرى من حقها أن تتلقاها دون نقص في المستقبل باعتبارها حقا تاريخيا أو عرفيا.

ماهي المسارات المستقبلية المتوقعة لمنازعات المياه الدولية؟

سنعثر على مؤشرات صلبة لبناء توقعات في دراسة أجرتها جامعة اوريجون الأمريكية حول منازعات المياه المعروفة على مدى نصف القرن الأخير. شهدت الفترة 1288 حدث تعاوني بين شركاء الحوض المائي الواحد، انطوت على عقد 200 معاهدة لتنظيم التعاون في الأحواض المشتركة. واتجهت 39,57% من هذه المعاهدات لتنظيم الانتفاع من الطاقة المولدة، و37,53% لتنظيم استخدام المياه، و9% للتحكم في الفيضانات، و6% للتخصيص الصناعي. وفي المقابل كان هناك 507 أحداث خلافية. وانحصر ثلثي هذا العدد في منازعات لفظية غير حادة، و لم تصل إلى مستوى العنف سوى في 37 حالة جميعها في الشرق الأوسط فيما عدا سبعا منها.

ومن شأن استقراء خبراتنا التاريخية المعاصرة أن يمنحنا عدة نتائج مهمة، تمكننا من دفع نفس المسار التعاوني خطوات جذرية إلى الأمام.

تخبرنا النتيجة الأولى أن فكرة السيادة الوطنية في صيغتها القديمة المطلقة لم تعد صالحة، ليس فقط لمعالجة نزاعات المياه بل أيضا للتعامل مع العديد من المشاكل الخطرة في عالمنا المعاصر، وعلى رأسها مشاكل المناخ والتدهور الإيكولوجي والهجرات الجماعية الإكراهية. الأمر الذي يعني أننا أصبحنا في حاجة لتقنين مفهوم جديد للسيادة، لا ينسخ القديم بل يعيد رسم حدوده في مواجهة سياقات محددة ومتفق عليها.

وتخبرنا النتيجة الثانية أن فكرة الحق التاريخي العرفي لدول المصب أو العبور في موارد الأحواض الدولية، كحق مقيد لحق السيادة الوطنية في دول المنبع، لم تعد بدورها قادرة على الوقوف في وجه مصالح مصيرية في دول المنبع، واصبح من الضروري أن تشرع تلك الدول بتكييف أساليب إنتاجها في مواجهة الوضع المائي الجديد. وتخبرنا النتيجة الثالثة أن الإطار الأكثر جذرية وديمومة لمواجهة منازعات المياه هو التنظيم الجماعي لإدارة الحوض المائي. تنظيم هيكلي يقوم على مزيج من المؤسسات المركزية والقاعدية، وتنوع في التخصصات، وقدرة على النفاذ للمعلومات وحرية تداولها، ورقابة هيكلية على مؤسسات سلطة الأعضاء، ونفاذ عضوي للمؤسسات المحلية وقدرة على إكسابها سياسات التكيف مع تحولات بيئية دائمة. وليست النتيجة الثالثة مجرد طرح نظري، بل جوهريا حصيلة خبرات أوروبية نجدها في تشكيل اللجنة الدولية لحماية نهر الراين بهياكلها، واللجنة الدولية لحماية نهر الدانوب بهياكلها.

وتخبرنا النتيجة الرابعة أن نزاعات المياه في شدتها وقابليتها للحل ليست مجرد حصيلة عوامل موضوعية بل أيضا حصيلة لقدرة القيادات على حلها، الأمر الذي يعني أنها في حاجة إلى قيادات رفيعة وبراجماتية وتمتلك حس اللحظة والتوقيت ولديها نظرة مستقبلية وخيال سياسي، والاهم قادرة على عزل سياسات إدارة النزاع عن أزماتها وصراعاتها الداخلية.

وتخبرنا النتيجة الخامسة والأخيرة أن مواجهة النزاعات، يجب أن تنطلق عبر ربطها عضويا بسياقها الأعم، أي أزمة المناخ والتدهور المتصاعد في النظم الإيكولوجية. وهو ما يعني وعي ضرورة بناء سياسات إنتاجية وإيكولوجية جديدة، تتخلى عن ممارسات أزمنة وفرة المياه وتعترف بحقيقة الانخفاض الدائم في المتاح منها. سياسات تسعى لتبني الزراعة العضوية والحراجية وتنويع المسطحات الزراعية، وحماية الغطاء النباتي والتربة واستعادتهما، وإدارة حديثة لنظام الري تقلل من حجم الفاقد وترفع مستوى المياه العائدة وتطور مستجمعات المياه. وتؤطر كل ذلك عبر هياكل الإدارة الأهلية، وتطوير المعرفة العامة، وتأسيس بنى تحتية مستدامة.