أفكار وآراء

ترامب ليس على وفاق مع مؤسسات السياسة الخارجية

19 نوفمبر 2019
19 نوفمبر 2019

عاطف الغمري -

قد يبدو أن هذا المقال قراءة فيما يجري في أيامنا الراهنة، في ملف أزمة التسلح النووي المستمرة بين أمريكا وكوريا الشمالية، لكن النظر في الأبعاد المختلفة لهذه المشكلة، يطرح ظاهرة أبعد مدى من حدود المشكلة الكورية، وتتعلق بإدارة الرئيس ترامب للسياسة الخارجية بشكل عام، وما ينطبق على تعامله معها، بنهج يكاد يكون متماثلا في قضايا تختلف عن بعضها البعض.

وإن كانت الحالة الكورية التي تتحرك فيها الإدارة الأمريكية كبندول الساعة، باندفاع أحيانا إلى أقصى درجات التشدد، وبالعودة إلى النقيض، باستخدام لهجة التهدئة، وهو ما يضفي على إدارة ترامب صفحات منها الغموض، ومنها الوقوف عند حدود المسارين المتباعدين بلا قرار، سواء بالحرب، أو باتفاق للسلام، ويذكر أن ترامب قبل لقائه في قمة 2018 مع كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية، أعلن إنه سينهي الحرب الكورية، ويقيم سلاما دائما في شبه الجزيرة الكورية، باتفاق على معاهدة سلام لتسوية دائمة للنزاع.

ثم كان من خروج ترامب على ما اتفقت عليه مؤسسات السياسة الخارجية، إزاء إطلاق كوريا الشمالية سلسلة تجارب إطلاق صواريخ جديدة، فكان رد فعل ترامب قوله إنه يرفض أن تكون لهذه الصواريخ أهمية، وهذا عكس ما أعلنته هذه المؤسسات الأمريكية.

والمفترض في دولة كالولايات المتحدة، لا تنبني فيها الرؤية السياسية على انفراد الرئيس بصناعة القرار، بل يتم التوافق على القرار في القضايا التي تمس الأمن القومي. مع رئيس وأعضاء مجلس الأمن القومي، بما فيهم وزيرا الخارجية والدفاع. ولم يكن أي رئيس أمريكي يحصر تفكيره فيما تسفر عنه هذه اللقاءات الرسمية، بل يستعين كذلك بأصحاب الخبرات المتراكمة في أية قضية يود أن يصنع لها سياسة خارجية، وهؤلاء هم النخبة المتخصصة في مثل هذه القضايا، لكن ما فعله ترامب كان مخالفا لذلك. وهذا هو ما كشفت عنه قراءة الملف الكوري، من عدم استعانة الرئيس بأفكار ومقترحات دوائر النخبة.

كانت البداية عقب إطلاق كوريا الشمالية صواريخ جديدة بعد فترة انتظار لأن تسفر الدبلوماسية عن انفراج بين الدولتين. ثم جاء تهوين ترامب من قيمة تلك التجارب الصاروخية.

في الحال تلاحقت المواجهات الرافضة لوجهة نظره، سواء من داخل إدارته نفسها، أو من جانب الخبراء المستقلين. وكان من أبرزها ما أعلنه مارك إسبر وزير الدفاع في مؤتمر صحفي بقوله إننا نشعر بالقلق من هذه التجارب من جانب كوريا الشمالية وتتابعت وجهات النظر المشابهة، إلى حد قول مسؤولين بالمخابرات الأمريكية بأن هذه التجارب تتيح لكيم تجربة صواريخ ذات مدى أكبر مما هو متاح لها الآن، بما يمكنها من التغلب على الدفاعات الأمريكية في هذه المنطقة من آسيا.

وكما نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن فيبين نارانج أستاذ العلوم السياسية بمعهد التكنولوجيا بجامعة ماساشوسيتس، وصاحب الدراسات عن التقدم في تسلح كوريا الشمالية، إن ما يجرى مؤخرا من تجارب تمثل تحركا سريعا في الإطلاق والمناورة، إنما يمثل كابوسا للدفاعات الصاروخية الأمريكية، وأنها مسألة وقت قبل أن تتطور هذه الأسلحة إلى صواريخ بعيدة المدى، يمكنها أن تحمل رؤوسا نووية أو تقليدية.

ولم تتوقف التقديرات المخالفة التي انفرد بها ترامب، عند الداخل الأمريكي، بل شارك في نفس الرؤية، شيزو آبى رئيس وزراء اليابان، قائلا إن جميع تجارب كوريا الشمالية تمثل انتهاكا لقرارات مجلس الأمن. وكانت كوريا الشمالية قد توقفت عن إطلاق الصواريخ لمدة عام، أملا في تخفيف إدارة ترامب العقوبات عليها. لكن المسار الدبلوماسي توقف عند القمة الثانية في هانوي بين ترامب وكيم.

وفي تحليل لرئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس يقول، إن ترامب يريد أن يبدو متشددا، ثم يعود بعدها لإطلاق مبادرة دبلوماسية. وإن طريقته في علاج نزع السلاح النووي غير واقعية، مشيرا إلى أن في حوزة كوريا الشمالية عشرات من الأسلحة النووية. وربما كان من أسباب قلق ترامب إن التهديد الحقيقي في حالة تجدد النزاع، لا ينحصر فقط تجاه كوريا الجنوبية واليابان، بل يهدد 28500 جندي أمريكي مرابطين في كوريا الجنوبية.

والمشكلة هنا، والتي تظهر ليس فقط في انفراد ترامب بقرار السياسة الخارجية، في خروج على التقاليد التي كانت مرعية في عهود جميع الرؤساء الذين سبقوه، بل أيضا في كثرة تغييره لوزرائه ومعاونيه، والذين لا ينتمون إلى دائرة النخبة التقليدية، بل أيضا لاختياراته التي تظهر أنهم في غالبيتهم لا يجمعهم توجه متناسق في إدارة السياسة الخارجية، ونظرتهم للمشاكل المزمنة في العالم والتي تحتاج لمعالجات واقعية لا تنحصر في دائرة ما يتفق مع ما يريده الرئيس، خاصة ما يفيده شخصيا في حملات إعادة انتخابه لولاية جديدة. وربما كان من نماذج التناقض في اختياراته أو ما سمى بحالة الفوضى داخل البيت الأبيض، اختياره جون بولتون مستشاره للأمن القومي، والذي استبعده ترامب من منصبه بعد أقل من عام. فترامب لا يكف عن القول أنه لا يسعى إلى حروب أو نزاعات، وإنه يفضل الدبلوماسية، وكذلك قوله إن غزو العراق كان خطأ جسيما. وهذا شيء لا يستقيم مع تاريخ بولتون، المعروف. فهو كان من غلاة المخططين لغزو العراق، وإنه ينتمي إلى جماعة المحافظين الجدد، التي وصفت فترة إدارتها للسياسة الخارجية في عهد بوش الابن، بعسكرة السياسة الخارجية، وإعطاء أولوية للقوة العسكرية قبل الدبلوماسية، والهيمنة على العالم ولو بالقوة. الصورة توضح أن اختياراته ذات طابع انفرادي من جانبه، ومن ثم ظهر التفاوت الكبير بين وجهة نظره، ووجهات نظر الخبراء المختصين، حتى في داخل حكومته.