أفكار وآراء

بين جيلين.. حكاية كاملة تروى للأجيال

17 نوفمبر 2019
17 نوفمبر 2019

عماد البليك -

بالنسبة للعمانيين الذين عاشوا مرحلتين، ما قبل وبعد النهضة الحديثة فالصورة جلية وواضحة، ما بين ما كان وما جرى من تغيير وتحول في بُنى الحياة السياسة والاجتماعية كافة قطاعات الحياة بشكل عام.

لكن ربما يختلف الوضع مع الأجيال الأكثر حداثة التي لم تر كيف تشكّل المشهد الكلي عبر السنين والعقود المتعاقبة، فأن تأتي في الخلاصات أو في تتويج المنجز، فهذا يعني أنك لن ترى رحلة الكفاح الطويلة التي قطعها الآباء والأجداد للوصول إلى اللحظة المعاصرة.

بالنسبة لي كإنسان عشت في عُمان لفترة تقترب من 15 سنة يمكن أن يكون الوضع مدركاً من خلال القراءات والمراجعات وعدد من الكتب التي ألفتها عن التجربة والمشروع العماني، التي يتقاطع فيها الواقع السياسي مع التاريخ الاجتماعي والثقافي، ففي بلد مثل سلطنة عُمان من الصعب أن تفصل جملة هذه الحقول عن بعضها البعض، فأنت أمام طيف من الفسيفساء الرائعة والمعقدة في الآن ذاته؛ التي تعمل على تركيب مشهد اليوم في تاريخ عُمان الحديث.

عندما تولى جلالة السلطان قابوس المعظم – حفظه الله ورعاه - الحكم قبل قرابة خمسة عقود من اليوم، فإن المشهد كان يفصل بين عالمين، تاريخ وإرث عظيم، لكنه يكاد قد تغطى بغبار السنين من خلال متلازمات الفقر والشظف وضنك الحياة؛ ولحظة تتطلب وقتها الانتباه إلى ما يجري في العالم من تحولات ومتغيرات، فالعرب كانوا قد خرجوا لتوهم من النكسة وكان الحس القومي كبيراً فيما كانت الشعوب المتقدمة فيما يعرف بالعالم الغربي والأول، تستعد لارتياد أثر ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما عرف نظرياً في عام 1972 بـ «ما بعد الحداثة» الأوروبية، أي الانتقال من الاشتغال على الذات المفردة في الوعي إلى التاريخ الكلي والجمعي، والنظر في تفكيك بنى العالم التقليدي وتركيب صور الثقافة وانعكاسها على الشعوب في تفاصيل غير منظورة من قبل.

وسط هذا الفعل التثويري العالمي ولدت النهضة العُمانية، التي أطلق عليها السلطان قابوس صفة رسالة وليست سلطة، وهو يؤكد على بناء الدولة العصرية عبر الاعتماد على تأسيس وحدة وطنية صلبة ومتينة القواعد، ومن ثم بناء دولة المؤسسات الحديثة وعبرها يتم تأسيس البنى الأساسية من طرق وجسور ومطارات وموانئ، وفي ظلال ذلك كان يتم نسج الإطار السياسي التشريعي الذي تبلور في مؤسسة الشورى العمانية ذات الطابع المحلي المتمازج مع الروح العالمية وملمح التحضر الكوني.

هذا الإطار ضروري لكي ندرك أن الإجابات على أسئلة وتحديات كل مرحلة من المراحل لم تكن سهلة أبداً، ففي نهاية الطريق يبدو الضوء خافتاً لكن بالتقدم نحوه يمكن اكتشاف المساحات بكل هدوء.

كان ذلك ديدن السياسة العمانية التي أخذت من طابع الشخصية العُمانية ومزجت ذلك بكاريزما جلالة السلطان الذي كان يأخذ من تراث غني لأسرة البوسعيديين الممتد لقرون، وفي الوقت نفسه كان جلالته حريصاً على أن يتعضد هذا الإطار كله ويتماسك من خلال التعايش مع اللغة العالمية الحاضرة، تجربة الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب.

لقد أصبحت عُمان الحديثة تتمتع بهذا النسيج المتوازن والقسطاس المستقيم لكفتي ميزان يقوم على معادلة الأمس واليوم، التاريخ والمعاصرة، الأمل والتحدي، التأمل في إمكانية صياغة الحياة الأفضل من خلال روح وثابة تعرف الانتباه للفرص وتعتمد على السكون والهدوء والتدرج المدروس.

كان ذلك طابع البناء الوطني الداخلي، الذي يتمازج مع صورة البناء الخارجي في سياسة تعتمد على القوة الداخلية، فكلاهما يكمل الآخر، من خلال الإخاء والاحترام المتبادل والاعتماد على خصائص العصر الحديث في كون العولمة تتطلب التعايش مع الآخرين من خلال السلام الذي يكون عماده التكامل الاقتصادي والمعرفي.

لقد كانت عُمان تقطع كل مرحلة وهي تتهيأ للمقبل وتختبر وتراجع ذاتها في سكونها المعتاد، ليس ذلك بهرجة ولا من أجل أحد بل لأجل الذات التي تريد أن تكسب نفسها لا غير.

فأن تعرف نفسك هو الأبقى، ودائما كانت السياسة السامية لجلالة السلطان تركز على السمو، الذي يجعل الذات متمثلة في الدولة وفي كل خطواتها فريدة، من خلال الإحساس بالهوية الذاتية دون حاجة لتقليد الآخر أو التشبه به، فأنت تكسب معناك بهذا الفرز الحصيف الذي يجعلك تنتقل من طور العالم إلى العارف، بحيث تشارك في بناء روحك وإنسانيتك في معادلة طابعها التشابك الإيجابي والأخذ بمعطيات التجربة العالمية في المعاني الرائدة فيها، وكل ما هو جميل ورائع.

اليوم وعلى أعتاب عقد جديد من الألفية الثالثة، تبدو تطلعات المستقبل غير ما هي عليه في مطلع السبعينيات ساعة كانت البدايات، برغم أنه ثمة طابع وهدف موحد ومستمر عبر الأزمنة، هو السير إلى الأمام وتسلق الجبل إلى القمة بعد التسلح والتدرب الجيد، وفي هذا الشأن يكون النظر إلى الإنسان وإلى القدرات وإلى مراجعة الذات بشكل مستمر، وهو النهج الذي أكد عليه جلالة السلطان من ضرورة المراجعات وتعلم النقد سواء للتاريخ أو المعاصر من حياتنا الجديدة.

تعيش عُمان لحظة تاريخية على أعتاب الاحتفال باليوبيل الذهبي في العام المقبل في مثل هذه الأيام لتكون ثمة الكثير من الأفكار والسرديات التي يمكن أن تروى، والقصص التي يمكن أن تسجل وتوثق، إنها حكاية كاملة تروى للأجيال.. وأمام ذلك ينفتح الطريق إلى مستقبل يعتمد فيه التطلع والأمل على عناصر القوة الذاتية المتشكلة عبر القرون والتي تأكدت في سنوات النهضة الحديثة.