عمان في عيدها الـ «49»
أحمد بن سالم الفلاحي -
لعله من أهم القياسات التي تراعى عند الحديث عن الوطن، هو المقياس الدولي، وهو مقياس؛ يظل موضوعيا؛ إلى حد كبير، ولن يخلو من الحياد في كثير من جوانبه، لأن الإجماع الدولي على ثيمة واحدة للوطن، هو في حد ذاته منجز حضاري، عالي القدر والقيمة، وما نعيشه في هذا الوطن العزيز، من إشادة دولية متعددة الأطراف هو مكتسب يضم إلى جملة المكتسبات المتحققة لهذا الوطن بفعل أبنائه الميامين.
يستذكر العمانيون؛ وبكل فخر؛ يوم الـ (18) من نوفمبر من عام (1940م) وهو يوم ميلاد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – حيث شكل ميلاد جلالته، اللحظة الفارقة في التأريخ الحديث لعمان، فهذا الميلاد هو الذي أسس المرحلة الانتقالية في الـ (23) من يوليو من عام (1970م) لتبدأ المرحلة الجديدة في عمر هذا التأريخ الممتد بمكوّنه الحضاري الكبير والعميق والشامل، وها هو اليوم ينجز (49) عاما، شكلت وتشكلت عبر مناخات من التنمية، والقناعات، والبذل والعطاء، والعودة والعمل، والتمكين، والبقاء، وفي طور تشكلها المستمر، هناك وهنا تبدو الصورة أكثر ألقا، ونضارة، وتستقصي بكل ذلك امتداد المساحات الجغرافية، وتغير وتبدل، لتضفي على المشهد العام، ذلك التوافق الجميل بين القمة والقاعدة، في صورة من التلاحم، والتآزر، والتعضيد، والمساندة، وهذا مما يزيد من قوة ومتانة التأسيس، ويذهب بعيدا إلى حيث المكون الحضاري في صورته الحديثة، وبأدواته الحديثة، ليزيد من عمر البقاء، والاستمرار، والنمو.
ينظر إلى مشروع النهضة العمانية على أنه لم يكن مجرد نهضة في مشروعها المادي الصرف، بل تجاوز إلى ترسيخ القناعات بأهمية البقاء على المنجز الحضاري، وتعظيم دوره عبر مسارات تذهب إلى الإنسان، وتأخذ به إلى مصاف المساهمة في المشروع الحضاري للأمة، ولذلك كانت الخطوة الأولى نحو التأسيس انطلقت من الاهتمام بالتعليم، كأول خطوة لمحو الأمية من ناحية، ولإيجاد مساحة ذهنية تستوعب المرحلة بكل استحقاقاتها المادية والمعنوية على حد سواء، من ناحية ثالثة، وللقدرة على المساهمة، والمبادرة، والذهاب؛ بعقلية المتفتح؛ إلى السعي نحو تغيير المنهج التنموي عبر مجموعة من التغيرات، والتبدلات، والاستفادة من تجارب الآخرين فيما يتواكب والخصوصية العمانية؛ وليس التقليد مطلقا؛ وذلك ليتواكب مع متطلبات كل مرحلة من مراحل التنمية، ولذلك زحفت مجموعة البناءات في مشروع التنمية زحفا شاملا، في مختلف الجوانب الرئيسية المعروفة: الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية، حيث تداخلت مجموعة التغيرات والتبدلات في كل واحدة من هذه الأركان، بما يتناسب مع متطلبات العصر، والخصوصية المجتمعية لأفراد المجتمع، وبما يعزز المشروع التنموي ككل، وبذلك استطاعت مجموعة الجهود المبذولة، مع قلة الإمكانيات، والظروف الفجائية التي تحدث بين كل فترة وأخرى، أن تواصل هذا الزحف التطوري الشامل، وتتقصى كل الجوانب، دون أن يكون هناك خلل يفضي إلى عرقلة، أو حدوث تباينات جوهرية بين هذه الأركان، فبدت الصورة واضحة، ومعبرة، وتشكّل كيان حديث، بمقومات حديثة، دون أن يفقد خصوصيته التاريخية، والاجتماعية، فيذهب به إلى التشويش المخل للمكون الحضاري العميق.واليوم بعد مرور هذا العمر الزمني الجميل، بتطوافه الأجمل على امتداد الأرض العمانية بإنسانها الجميل؛ أيضا؛ هل تقبل التجربة التقييم؟
أقول: نعم؛ وبكل سرور، وهذه إحدى مميزات الفعل الإنساني، وأي تنمية لا تقبل التقييم، تظل تنمية تبحث لها عن عنوان في سياق التجارب التنموية في العالم كله، ولذلك فعندما تقيّم التنمية، فإنه يقيّم فعل الإنسان، وعندما يقيّم فعل الإنسان، فإن ذلك يذهب إلى البحث في المساحة الآمنة الممتدة عبر نصف قرن من الزمان إلى ملء مجموعة الفراغات التي تكون هنا؛ أو هناك؛ وهذا من شأنه أن يجدد من الصورة، ويجدد من الفعل، ويجدد من العطاء، ويساهم مساهمة مباشرة في البقاء على ديمومة العطاء من ناحية، وعلى التحفيز بإيجاد أفكار ورؤى تخدم المشروع التنموي المستمر، ولا تعطي نفس البقاء عند مرحلة معينة من مراحل النمو، حيث تطرد حالة التململ، أو التنازع على الرؤى غير الواضحة، أو الواعية، فيؤدي ذلك إلى ارتباك في المنظومة، ومن هنا استدعى الأمر العمل الجاد على مؤسسات داعمة لهذا المشروع الممتد، ومؤسسة معززة للبقاء والاستمرار، ومؤسسات من شأنها أن توجد حلولا سريعة، ومبتكرة، وإبداعية لمجمل القضايا الفجائية، أو الفارضة نفسها بحكم الظروف العالمية.
من هنا وهناك، وبفعل التواصل، والتأثير والتأثر، فالعالم اليوم قرية كونية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الانفصال والتوحد، ولذلك يمكن القول: إن مراجعة قضايا التنمية واحدة من الموضوعات التي تخضع للتقييمات المختلفة من قبل المتلقين، ومع ذلك فالمتحقق النسبي من مشروعات التنمية، يبقى منجزا مهما، وموضوعيا، والعلاقة به – كمواطنين – علاقة عضوية لا تنفك عراها، لأن المتحقق هو وطن، والوطن لا ينفصل عن أبنائه، وأبناؤه هم من يحملون لواءه في الملمات، فلا محيد عن الوطن، للبقاء والاستمرار، وكما أن التنمية هي فعل إنساني بامتياز، فكذلك التقييم فعل إنساني بامتياز.
بالأمس القريب اختار المواطنون (86) عضوا يمثلونهم في مجلس الشورى في فترته التاسعة (2019 – 2023) يأتي ذلك ليس فقط، لتجسير العلاقة بين الحكومة والمواطن، فكلا الطرفين هما في خندق الوطن، ولكن لتعضيد المشروع الأكبر، وهو تأصيل التجربة، ومشاركة الكل للكل، ومشاركة المواطن للوطن، فاليوم ينظر إلى هذه الممارسة التي قطعت ثماني فترات من عمرها التشاوري الجميل، بكثير من الاعتزاز كممارسة شورية بخصوصيتها العمانية، وعندما نوسمها بـ «الخصوصية العمانية» فإننا نذهب بها إلى النأي عن مفهوم «الربح والخسارة» لأن الشاغل هنا الوطن فقط، وليس إلا، والوطن جزء واحد لا يتجزأ حتى يقع في مصيدة «الربح والخسارة» ولذلك فالسعي نحو ممارسة الشورى بشمولية المعنى الذي يفهمه العالم الحي، والمشروع الذي تعيشه السلطنة في عهد بانيها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – هو مشروع تسعى كل دول العالم إلى تحقيقه بكامل استحقاقاته، وإن تمايزت النسب في مسألة تحقق هذه الاستحقاقات؛ وفقا؛ لظروف كل دولة على حدة، ولكنه – كما ننظر إليه ونقيمه - في المجموع هو إنجاز عماني ينأى بنفسه عن تجاذبات الأجندة السياسية الموجودة في كثير من دول العالم، وهذا أمر مهم.
لعله من أهم القياسات التي تراعى عند الحديث عن الوطن، هو المقياس الدولي، وهو مقياس؛ يظل موضوعيا؛ إلى حد كبير، ولن يخلو من الحياد في كثير من جوانبه، لأن الإجماع الدولي على ثيمة واحدة للوطن، هو في حد ذاته منجز حضاري، عالي القدر والقيمة، وما نعيشه في هذا الوطن العزيز، من إشادة دولية متعددة الأطراف هو مكتسب يضم إلى جملة المكتسبات المتحققة لهذا الوطن بفعل أبنائه الميامين، وقد أسس لهذه المساحة الآمنة التي تستشف منها الدول ثيمة الأمن والاستقرار في السلطنة، هو حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – حيث نأى بعمان عن الوقوع في مظان مجموعة التحزبات والرؤى الضيقة، فكان له هذا الاتساع اللامحدود من الإشادة الدولية بعمان وسياستها الحكيمة.
في لقاء صحفي سألت معالي يحيى بن سعيد الجابري – رئيس مجلس إدارة هيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم - عن بعدين مهمين متعلقين بحيوية التنمية في السلطنة، وأثرهما في استقطاب رؤوس الأموال؛ وهما: السياسة الخارجية المتوازنة، ومساحة الأمن والاستقرار، فكان رد معاليه كالتالي: «مما لا شك فيه بأن جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السلطنة على العموم، والمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم على الخصوص، يستند في الدرجة الأولى إلى رصيد كبير من العلاقات الدبلوماسية الطيبة التي تتمتع بها السلطنة مع دول عديدة في العالم سواء على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف، فقد لمسنا ذلك بصورة جلية خلال الحملات الترويجية العديدة التي قامت بها الهيئة خلال الأعوام الماضية، وهذا الأمر هو نتاج للرصيد الذي أوجده حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه – والسياسة الرشيدة التي انتهجها - في بناء الدولة ومؤسساتها الحديثة، ومن أجل النهوض بالسلطنة في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولربط السلطنة في منظومة علاقات دولية تقوم على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وتعزيز السلام والأمن الإقليمي والدولي».
حفظ الله عمان على مدى الأزمان، وألبس قائد مسيرتها الصحة، وجمّله بالعافية. اللهم آمين.