1370819
1370819
المنوعات

باسم فرات: عُمان ستكون البلد رقم 40 في قائمة رحلاتي

16 نوفمبر 2019
16 نوفمبر 2019

أكد أن فوزه بجائزة السلطان قابوس يحفزه على التوغل عميقا في مشروعه -

حاوره : عماد البليك -

من رحم الطفولة المبكرة جاءت علاقته مع أدب الرحلات التي صقلها بالمران والتجربة والتحدي في اختبار ظروف الحياة، خرج من بلده باحثاً عن شيء ما في المجهول عله يجده في مكان آخر، وطن ثان. بالنسبة له كانت الأرض كأنها كلها موطن، ومزج ذلك السؤال المجهول بالحاجة إلى الشعر.. غذاء الروح.. الانتباه للتفاصيل في الرحلة والغموض مقابله في فن الشعر.

هي تجربة الأديب والشاعر والرحالة العراقي باسم فرات الذي حصد جائزة السلطان قابوس التقديرية للثقافة والآداب والفنون في دورتها الثامنة لهذا العام 2019 في أدب الرحلات عن فرع الآداب، والتي وصفها بأنها الجائزة الأكبر عربياً ومن أكبر الجوائز العالمية من حيث القيمة الرمزية والمعنوية.

وعقب إعلان فوزه كتب على صفحته بالفيسبوك صباح يوم الأربعاء: «أهدي هذا الفوز بأكبر جائزة عربية للعراق وللنبلاء المتظاهرين السلميين الوطنيين حقّاً وصدقاً. شكراً لكل الأصدقاء الذين راهنوا على كتاباتي والذين فرحوا لي. والشكر الأكبر والأعظم هو للمؤمنين بوحدة التراب العراقي واستقلاله وسيادته، المحاربين للفساد والطائفية والفئوية والعنصرية والانعزالية، المؤمنين بعراق يسع الجميع، المؤمنين بالتظاهر السلمي الرافضين للعنف والدكتاتورية وقوة السلاح».

زار باسم فرات 39 بلدا حول العالم وكتب خمسة كتب في أدب الرحلات، بالإضافة إلى إنتاجه الشعري البالغ تسعة دواوين شعرية، وقد سبق له الفوز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، وله العديد من الكتب المترجمة وعشرات الحوارات والمقابلات الصحفية والتلفزيونية.

في هذا الحوار يكشف لنا باسم فرات من مقامه الراهن حيث يعيش بمدينة الخرطوم العاصمة السودانية، عن تجربته مع الإبداع عامة، حقيقة الذات الإنسانية في جدلها مع الأمكنة والأزمنة، والبحث عن غاية الحياة.. كل ذلك يتجلى في مساءلة الشعر والنصوص التي تكتب عن الأمكنة في أدب الرحلة، الذي يعد من الفنون النادرة عربياً في الوقت الراهن برغم أنه كان عميق التواجد في التراث العربي.

في البدء. ما الذي يعني لك فوزك بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب؟

أعظم ما في الجوائز أنها تُسدد ديونك، وتلفت الأنظار إليك، وتضع مسؤولية على عاتقك، ولكي تكون أهلًا للثقة التي منحتك إياها لجنة التحكيم، يجب أن تتجاوز نفسك وتخلص أكثر لمشروعك الإبداعي. حتمًا الفوز بواحدة من أهم الجوائز العربية، وواحدة من أكثر الجوائز العالمية قيمة مالية، يعني الكثير، جائزة فعلًا مثلما وصفها أستاذنا الكبير سعيد يقطين أحد أعضاء لجنة التحكيم بأنها تُحفّز الرحالة أن يتوغل عميقًا في مشروعه.

هل كنت تتوقع ذلك الفوز؟

بكل تواضع كنتُ مؤمنًا به، لأن شاعرًا حقيقيًّا يجوب البلدان بحثًا عن الجمال والمعرفة ويستمتع وهو يُقدمها إلى الناس، شاعرًا كَرّسَ حتى للشعر والكتابة والبحث في ثقافات الشعوب وما يجمعنا ببعضنا بحسّنا الإنساني، وهي هُويتنا الكبرى، ردًّا على الرافضين لها، الباحثين عن الهُوية الصغرى من أجل خلق الكراهية بين الإنسان وأخيه الإنسان. والدليل على إيماني أو توقعي للفوز، هو أنني قمت وعلى حسابي الخاص بنشر آخر كتابين لي وهما «طواف بوذا» و«لؤلؤة واحدة وألف تل» الأول كان جاهزًا قبل أكثر من عام. وحرصت على تكون دار النشر مسجلة رسميًّا أي لديها التسلسل الدولي.

لا شكّ هناك عشرات المبدعين الذين كتبوا في أدب الرحلات وأجادوا، واحتمال وجود مَن هو أفضل مني، لكن ندرة مَن جعل كتابة أدب الرحلات همًّا مثلما الشعر همّي، وهناك مَن لم يسعفه العدد، أي نشر كتابين أو ثلاثة، بينما الشرط الأساس أن يكون عدد الكتب المنشورة خمسة. هذه عوامل ساعدت في ترجيح فوزي بهذه الجائزة الأكبر عربيًّا.

زرت عشرات البلدان ولم تزر مسقط من قبل كما أعلم.. هل ستكون الجائزة حافزا لكتابة عن سلطنة عمان؟

يسرني بكل تأكيد أن تتاح لي الفرصة لزيارة أماكن عديدة من عُمان والكتابة عن هذا البلد العربي، لا سيما وأن عُمان ستكون البلد الأربعين في قائمة البلدان، ومنذ الآن سأعمل على برنامج لزيارة أهم معالم عُمان الثقافية والسياحية والجغرافية.

ما الذي منحه لك الاغتراب الطويل عن العراق في حفز التجربة الإبداعية بشكل عام؟

التنوع سنَّة الحياة، والاختلافات بين البشر ثراء، وأن علينا أن نحافظ على هذا الثراء، ربما لهذا السبب وأنا الذي أعيش في سرير اللغة الإنجليزية منذ أعوام طويلة، حتى أني أحلم بالإنجليزية أحيانًا، أو باللغتين العربية والإنجليزية عادة، لكني أنزعج جدًّا حين أسمع شخصًا يتحدث مع أهله أو صحبه أو في مكان عام أو خاص ويتلفظ بمفردات غير عربية لا ضرورة لها، والأدهى حين تكون المفردات ذات صلة بالمشاعر والعواطف التي تَكاد تكون الإنجليزية فقيرة جدًّا أمام ثراء العربية المذهل، العربية التي منحني الاغتراب الطويل والاحتكاك بمئات اللغات إيمانًا عن تجربة ووعي بأنها الأكثر ثراء ودقة في الدلالة لا تضاهيها لغة. اللغة العربية هي التي يجب أن تكون اللغة المعيارية للنحو في العالم.

انعكس هذا التماهي مع الشعوب والثقافات الأخرى على شِعري وكتاباتي، وأظنني كنتُ واضحًا في ديواني الرابع «بلوغ النهر» حيث ثقافات شعوب عديدة فيه، بينما ديواني السابع «محبرة الرعاة» خصصته في أغلبه للسودان وبعض القصائد عن مصر.

دائما ما ابتعدت عن البلدان الضاجة والعواصم الأوروبية وأمريكا الشمالية في رحلاتك.. واتجهت لبلدان الهامش، فما السبب وراء ذلك؟

لستُ ميالا للأماكن التي دنّسها عشرات الشعراء والأدباء قبلي، أميل للهوامش والأطراف، لأنها ثرية بالتنوع، في باريس ولندن التنوع كذبة كبرى، في هاتين العاصمتين وفي مدن المركزية الأوربية، السيطرة المطلقة للمركزية الأوروبية، للثقافة الغربية، التنوع مقموع بوسائل القوة الناعمة، بل حتى مناداتهم للاجئين والمهاجرين أن يحافظوا على ثقافاتهم هو في جوهره جزء من محو هذه الثقافات والاندماج حتى التماهي في الثقافة الغربية. بينما نجد الأمر مختلفًا في دول الهوامش والأطراف، حيث ما زال التنوع له خصوصيته، وفي بعض هذه البلدان قد يصل عدد اللغات إلى أكثر من خمسين لغة ومائة لغة. وهذا واضح تماما في دول جنوب شرق آسيا، وفي إفريقيا وأمريكا الجنوبية. عشقي للتنوع اللغوي - الإثني قادني إلى هذه البلدان، وهي متاحف تنبض بالحياة والرقص والأزياء والموسيقى والأكلات المختلفة، فضلًا عن طب الأعشاب والأساطير والمعتقدات.

بين أدب الرحلة والشعر.. ثمة مساحة تقارب وتباعد، أين يلتقيان وأين يفترقان؟

الإبداع هو القاعدة الأساسية لهما مثلما للرواية والقصة، لكن الشعر يعتمد على المحو، والتفاصيل والإخبار عنها يَقتل الشعرية في النص، بينما أدب الرحلات مبني على التفاصيل، فكلما أكثرت من التفاصيل، رحلتك، انطباعاتك، مراقبتك للمجتمع، فالرحالة عليه أن يكون سريع الالتقاط لمميزات أي مجتمع، فضلًا عن التاريخ والجغرافية والأرقام أي مساحة المكان وتاريخه وجغرافيته وتنوعه العقائدي واللغوي.

هل الرحلات عندك تحمل أي جانب تعويضي يتعلق بفقدان المكان الأم؟

أظن هذا، وهناك رأي طريف للناقد العراقي «زهير الجبوري» قاله لي شفاهيًّا، وهو أنني أرتمي بأحضان المكان وأخلق أُلفة معه بسرعة قياسية، نتيجة لفقداني لحنان الأبوين، إنه تعويض عن طفولة عشتها بلا أب وبلا أم، فضلًا عن مغادرتي شبه القسرية لبلدي مطلع تسعينيات القَرن العشرين، وعشت عدة سنوات سلبيًّا مع المكان، حتى قررت أن هذه السلبية سوف تنتج قصائد مشحونة بالحنين واللوعة والحزن والبكائيات، وبكلمة أخرى بكربلائيات لا تنتهي، عندها بدأت أتصالح مع الأمكنة ووجدت لغتي الشعرية تختلف وقصائدي أخذت منحى آخر، أثرى تجربتي الشعرية، ثم جاء أدب الرحلات ليكرسني عاشقًا لكل الأمكنة والثقافات.

ديوانك الأخير «مبكرًا في صباح بعيد»، تجربة لاستعادة المكان الأول.. أين وصل سؤال الشعر عند باسم فرات؟

الشعر حفر ومحو وتجاوز وأسئلة لا حصر لها، وتجربة فردية ذات خصوصية دقيقة، والشاعر الحق هو مَن يكتب نفسه ولا يسمح للآخرين بالدخول إلى قصيدته وترك بصماتهم، وهو ما ذكرته في قصيدتي «أرسم بغداد» إذ كتبت: لا أحد يُغرّد في حنجرتي». على الرغم من القول إن الشاعر هو مجموعة شعراء وقراءات، لكن الإنصات إلى الداخل يجعل القصيدة لها خصوصيتها الواضحة تمامًا بحيث تغطي على حضور الشعراء الآخرين.

زرت دولا كثيرة وتجولت في العالم.. كأنك تبحث عن إجابة ما معينة، تتعلق بمضمون الأمكنة والإنسان، فما الذي وجدته إلى الآن في ظل سؤال الإنسان وجدله الفلسفي مع الوجود والأرض؟

وجدت باسم فرات، بلا سرديات الآخرين، وتصديقها، بل العمل في الحفر في هذه السرديات، إن كانت لأشخاص أو مجموعات سكانية، بعبارة أخرى أن ليس كل كاتب هو بذات القيمة التي رسمها لنا النقاد أو وسائل الإعلام عنه، إن كان فيما يخص منجزه أو مواقفه والقيم التي كان يدعو لها. والأمر نفسه ينطبق على سرديات الأعراق والإثنيات والطوائف. وجدت أن عبادة الأصنام إساءة حقيقية للإنسان، فكل شخص وكل فكرة وكل مشروع وكل نسق ثقافي واجتماعي وكل خطاب قابل للتحليل والتفكيك، وأن هناك فرقًا بين النص السماوي وبين البشري في ما سطره البشر إن كان في كتب أو في الذاكرة الجمعية. وهذا قادني إلى كتابة رؤيتي الخاصة لكثير من القضايا والمصطلحات، مثل الفرق بين القومية والإثنية، والكتابة والتدوين، وأكذوبة أن اتفاقية سايكس بيكو قسمت المنطقة واصطنعت الدول العربية اليوم، وغيرها من القضايا الثقافية.

هل في ذاكرة الطفولة القصية، من محفزات لتجربتك مع أدب الرحلات.. هل من بذور هناك؟

بلا شك، فقد سحرني السفر منذ الطفولة حين قرأت سير الشعراء والأدباء والفلاسفة، وأتذكر كنت في بداية مراهقتي حين حضرت مجلسًا عائليًّا وكان شخصًا من الأقارب يتكلم عن تجربته في الجزائر والبلدان الأخرى، تمنيت في داخلي أن تصبح لي ذكريات، وأن أتحدث والناس تنصت لي، ربما كان الأمر بتأثير قراءاتي وتأثير مسلسل «السندباد» الذي شاهدة عدة حلقات منه بالصدفة، لأني قضيت طفولتي أعمل، وأتذكر كنت أعود من العمل ليلًا، وفي الطريق الطويل لطفل في التاسعة من عمره، أفكر أن أكبر بسرعة وأسافر، ربما هو محاولة الانتقام من وضعي المزري، طفل في التاسعة يبيع الأكفان والمسابح وسجاجيد الصلاة.

في 31 يوليو 2005 انتقلت للإقامة في هيروشيما قبيل الذكرى الـ 60 لإلقاء القنبلة بأيام، أين وقف التاريخ وأين تقدم بالنسبة لك وأنت تقف عند ذلك المكان؟

أولًا: اليابان أول بلد اخترته بمحض إرادتي، بينما لم اختر الأردن لأن كل الحدود كانت مغلقة بسبب أحداث «أغسطس» 1990 ميلادية، وحين قُبلت لاجئًا في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في عَـمّان، تم توطيني في زي الجديدة (نيوزيلندة) رغمًا عني، هذا جعلني أشعر بألفة عجيبة مع اليابان، فما أن وصلت حتى شعرت أني في جنة، ولليوم أراها أجمل ثلاثة أعوام عشتها، وكان الاحتفال بالذكرى الستين لإلقاء القنبلة الذرية، أعطاني درسًا بكيفية التعاطي مع الحرب بوصفها الغول الأكثر بشاعة، وأن السلام هو الحل الأمثل لمستقبل البشرية. هيروشيما جعلتني أتعلم كيف أتآلف مع المكان، وأصبحت حياتي ما قبل هيروشيما وبعد هيروشيما. هيروشيما درس في حب الحياة ومحاربة العنف والتعصب، وحب البيئة، وأن الوطنية ليست أموت ويحيا الوطن بل أعيش ليحيا الوطن، وأدافع عن قدسية حدود وطني ووحدة ترابه مثلما أدافع عن البيئة ومناهضة سباق التسلح، الوطنية في أروع صورها في أهالي هيروشيما حين ينهضون في الصباح المبكر ويحملون المكانس ليمارسوا طقسهم اليومي بتنظيف شوارع وأرصفة وحدائق منطقة سكناهم، فلم أر كناسًا في هيروشيما على امتداد إقامتي التي امتدت من 31 /‏‏ 7 /‏‏ 2005 إلى 31 /‏‏ 7 /‏‏ 2008 ميلادية.

كلمة أخيرة.. عن مشروعك القادم بعد هذا الفوز المعتبر.

سوف أجتهد لإنجاز عدة كتب بعضها أملك قصاصات قد تصل عدد كلماتها عشرة آلاف كلمة، وبعضها أقل بكثير، وهي عن تجاربي في هيروشيما والسودان وعودتي للعراق بعد غياب ناهز العقدين، ومشاريع أخرى.