أفكار وآراء

الـتـضـخــم ومحــللــوه

13 نوفمبر 2019
13 نوفمبر 2019

مصباح قطب -

عند الحديث عن التضخم - الرقم القياسي لأسعار المستهلكين - والتغطيات الصحفية والإعلامية له ، يلاحظ وجود ظاهرة إعلامية لافتة تتمثل في تكوين شكل ثابت لمتابعة التضخم فور إعلان نتيجته الشهرية أو معدلة من أي جهاز إحصاء وطني معني؛ ما يكاد الرقم يظهر إلا ويطالب رؤساء الأقسام الاقتصادية أو مشرفو النشرات المتلفزة، المحررين أو المعدين بضرورة الحصول على تعليق من خبراء ، وينصرف الأخيرون مباشرة وربما بصورة آلية الى المحللين الماليين أو الخبراء العاملين بمؤسسات مالية غير مصرفية أو في مراكزها البحثية، لا يخرج رأي الخبراء أولئك في كل مرة عن نطاق تحليلي لا يتجاوزونه فهم ينظرون الى التضخم بالأساس من زاوية ما إذا كان ، ومع العوامل الأخرى ، سيقود البنك المركزي في اقرب اجتماع مختص الى خفض أو رفع سعر الفائدة أو تثبيته ، وتأثير ذلك على المستثمرين الأجانب في أسواق الدين الحكومي ، ومدى تأثير معدل الفائدة المرتقب أيضا على البورصات ، ثم يتطرقون الى آخر قرار للفيدرالي الأمريكي حول الفائدة أو التوقعات المنتظرة منه طبقا لبيوت عالمية ، ويلفتون إلى تأثير أو عدم تأثير أسعار الصرف على التضخم واتجاهات سعر الدولار عالميا ، ويقارنون بالتضخم أو الفائدة في أسواق ناشئة مختارة وقد يحرصون على توضيح أن المعدل الجديد للتضخم يتفق أو يختلف بهذا القدر أو ذاك مع توقعاتهم السابقة ، والى أي حد يوافق أو يخالف خطة البنك المركزي نفسه للتعامل مع التضخم.

في المجمل فان تحليلات هذه النوعية من الخبراء تتوقف طويلا عند الاهتمام الرئيسي الطبيعي لبنوك الاستثمار والأعمال التي تعنى بحركة التدفقات وبالاستثمارات المالية غير المباشرة ( والمباشرة بدرجة اقل) ، وللمحللين الماليين ثقافة متعمقة في هذا الشأن ، ولهم غاية واضحة ، ولا يمكن لأحد ان يلومهم ، بيد ان الأزمة تتمثل في ان للتضخم قراءات أخرى تخص المستهلكين والمستوردين والمصدرين والمنتجين والمنظمين للأسواق الداخلية ، وينبغي تتعامل الميديا مع من يمثلهم أو يستطيع ان ينقل وجهة نظرهم ليكون التحليل شاملا ، مع الإشارة الى أنه ليس من قبيل الصدفة ان تكون سلة السلع والخدمات التي يفحصها جهاز الإحصاء بهذا التنوع ، وان يكون فريق العمل القائم على تجميع بيانات التضخم متنوعا للغاية بحيث يفهم في اختلافات أسواق السلع والخدمات، وفي المقابل ليست صدفة أيضا ان فريق بحث أسعار الفائدة ( لجنة السياسة النقدية ) أيضا بهذا التنوع في كل بنك مركزي وكيف انه ينظر الى الكثير من المؤشرات الداخلية والخارجية في ان ليقرر ما يراه بل وينوه في نهاية كل بيان شهري عن الفائدة الى انه مستعد لتغيير القرار عند ظهور عوامل مؤثرة مغايرة.

يقول لنا معدل التضخم بشكل واضح كيف تتأثر الأسعار بالمناسبات فهناك مجموعات سلعية ترتفع قبل شهر رمضان المبارك بشكل جلي، ومثلها المجموعة المرتبطة بالتكاليف المدرسية (مصاريف المدارس والجامعات ) ومجموعة الصحف والكتب والأدوات المدرسية قبل دخول المدارس ، وتأثيرها يمتد لأكثر من شهر. والخدمات والسلع الخاصة برأس السنة وهكذا. تخرج أحيانا إشارات حساسة يتعين ان نلتقطها من بين السطور، فمثلا حين تنتعش السياحة فإن تكاليف الرحلات السياحية المنظمة ترتفع ، شخصيا مثلا فأنا استقبل هذا المؤشر بقدر من الرضا لأن السياحة تنتعش في البلد، وبقدر مماثل من عدم الرضا لأن المستثمرين السياحيين وأصحاب الفنادق ودور الضيافة والمنتجعات يرفعون الأسعار على السائحين الوطنيين والتفسير واضح إلا وهو أن الطلب يزيد عن العرض. في محفل آخر قد تنزل بدون مناسبة أسعار النقل الداخلي ويمكن ان يكون وراء ذلك عوامل دالة على معاناة إنتاجية ( تباطؤ) أو اجتماعية ، فارتفاع تكاليف النقل عقب أي رفع للوقود يؤثر اتوماتيكيا على عدد الرحلات بكل الوسائل التجارية ، حيث النقل بند مهم من بنود الإنفاق ويتم تقليل الحركة عند ارتفاع الأسعار ما يقود الى ان تهبط أسعار النقل الداخلي ، لكن ان تهبط فجأة قد يدل على ان المستهلكين قرروا وبعد ان اجهدهم ارتفاع تكاليف المعيشة واستنفدوا البنود التي يمكن الخفض فيها فإنهم يبحثون عن بنود أخرى ومنها النقل فيقل التزاور او التحرك.

حين ترتفع بنود مؤشر الأدوات المدرسية والكتب قبل دخول المدارس فهناك ما يجب ان نتوقف عنده ومن ذلك ان حدوث ارتفاع كبير في غياب أي عنصر مؤثر بالزيادة على التكاليف يدل على ان هناك اختناقات ولو موسمية يستغلها التجار والمستوردون ، أو ان أصحاب المحال المختصة يعتبرون ان هذا الموسم هو الذي يدر عائدا يعيشون عليه بقية العام ، لأن حركة هذا النوع من التجارة تقل في غير الموسم.

قد يلاحظ أيضا حدوث تطورات في مجال الخدمات تستحق التأمل، مثال تغيرات مصاريف صيانة المنازل والوحدات السكنية غير العادية وكمثال في مصر فإن من الواضح وجود زيادة في هذا العنصر في العام ونصف الأخير ولأن الزيادة تتجاوز أثر العوامل التشغيلية المنطقي - كارتفاع الأجور أو أدوات العمل - فيجب ان يكون هناك عنصر كامن آخر يفسر ما يجرى واجتهادي الميداني في ذلك هو تسارع تحويل خدمات الصيانة عموما الى عمليات شركاتية بديلا للأسطى الصنايعي الفرد او المعلم الفرد وصبيه ، وقد يكون في هذا الارتفاع بعض الفائدة فمع الشركات يمكن الحصول على خدمة أجود أو اكثر ضمانا أو معها توجد مرجعية للحساب على سلامة وحسن الأداء ، وكلنا يلمس حاليا كيف تتسابق شركات رقمية مختلفة في تقديم هذا النوع من الخدمات حاليا بطريقة شبكية - كطريقة اوبر- ، وشيئا فشيئا تقوى المنافسة وقد يؤدي ذلك في المستقبل الى انخفاض في الاسعار أو حتى حدوث مضاربات ضارة كالتي تحدث في السياحة وقت هبوطها .

من المهم أيضا ان تقرأ أجهزة التجارة الداخلية بل والخارجية جيدا مؤشرات التضخم العامة والتفصيلية لأنها تقدم دلائل على طبيعة ما يجري في الأسواق من ندرة أو وفرة وطبيعة الأنماط الاستهلاكية ، ودائما ما يطالب الاقتصاديون لهذا السبب بزيادة عدد السلع والخدمات المدرجة في سلة السلع والخدمات التي يقيسها جهاز الإحصاء ليستخرج منها مؤشر التضخم ،كما ان عمل مؤشر لكل بند بشكل خاص من البنود الكثيفة الاستهلاك لهو أمر مهم وقد يمنع تعميمات ضارة فوضع الصحف مثلا مع الكتب والأدوات المدرسية يقدم صورة غير صحيحة عن حال الأولى فالصحف الورقية كما تعلمون في ركود وتشتت.. وهي ليست بأهمية الكتب والأدوات المدرسية للأسر، كذلك فإن سلعا لها أثر مبالغ فيه على التضخم يجب ان تنال عناية خاصة ويجب تحليل سلسلة بيانات طويلة لها لنفهم سيرورتها بصورة أعمق ، وفي مصر ثانية فإن للحوم تأثيرا كبيرا على مجموعة الطعام والشراب ، وللطماطم أثر بارز على مجموعة الخضر والفاكهة وهكذا .

لن أعيد هنا اقتراحا تم طرحه مرار - وصاحبه هو الراحل الدكتور جلال أمين - بضرورة وجود اكثر من مؤشر تضخم لنقيس بدقة مدى الارتفاع أو الانخفاض أو الثبات في تكاليف المعيشة ونمط الاستهلاك للأسر من الطبقات المختلفة ، لكن بوسعي ان أدعو أجهزة الإحصاء ان تأخذ في اعتبارها حين تقسم البلد جغرافيا الى ريف وحضر ان تراعي الطبيعة الخاصة للمناطق النائية ، وهي موجودة في كل دولة تقريبا ونمط الاستهلاك فيها مختلف بصورة لا تخطئها العين، من الواجب ان نحلل التضخم بمنظور أوسع من أثره على الفائدة و الاستثمار المالي .