رندة_صادق
رندة_صادق
أعمدة

عطر :لأنك عمري

13 نوفمبر 2019
13 نوفمبر 2019

رندة صادق -

منذ زمن لا يقتصر على حساب العدد، بل يتعداه إلى ذاك التاريخ الممتد في شراييني، إلى المعنى الحقيقي لكل نبضة عبرت تلك الأعوام وتراكمت تفاصيلها في ذاكرتي وعلى وجهي وتعمقت في خطوط يدي دون استئذان مني، لوجوه صادفتها فصنعت من حزني فرحا ومن فرحي طغيان الحزن على تعابيري، اختلطت عليّ الجهات والمرايا والتبس الصمت في ضجيج عيوني، والحياة حكايات صنعتني وحكايات كتبتها وأخرى كتبتني بقسوة الواقع، إنها أمور لا تعير اهتماما لأمنياتي أو لكم الشوق لعينيك التي خاطبت عينيّ بلغة تشرح وتقرر وتبادر بلا حرف تنبث به شفتانا أو حتى صوت يوثق حنيني.

دفاتر كثيرة تغير لون ورقها وبهتت صبغة الحبر فيها، تغيرت كل الأشياء من حولي وبقيت كلماتي لك تدق أجراس الذاكرة لتعلن أنك وان مت دنياي وكلي الذي حوله البعض في حياتي إلى أجزاء قطعت أوصالي ولكنها لم تقطع أحلامي. ليس من السهل أن تقتطع من أحاسيسك حقبة وتدعي أنك شفيت منها لتتابع حياتك وكأن الحياة لم تصبك في مقتل. لك وحدك يا أبي عمري وحنيني.

تربينا جميعا أن الدنيا أم وأن الأم هي الأرض وهي الحضن، ولعلنا كثيرا ما نكتب عنها ونتغنى بمآثرها وبدورها في حياتنا ونذكر الأب بمساحة أقل، ولكن الأب شيء آخر لأنه الكتف والسند هو القوة والصلابة هو الحنان المغلف برزانة الكلمة وهدوء الحرف. حين يخطف الموت منا والدنا أطال الله بأعمار كل الآباء يموت معه ذاك الكتف وذاك الحضور، حينها تشعر أن غطاء ما قد نزع عنك، وأنك وحيد ومكسور، وخاصة بالنسبة للفتاة لأنه يمثل بالنسبة لها صرح وسور وعقل وطيبة.

أتذكر والدي بعد كل تلك السنوات لأني حزينة من العلاقة التي آلت إليها طبيعة العلاقة بين الأب وأولاده، كنت انتظره واخافه واحترمه بحب واستمع له بشغف وأفتخر به بعنفوان. كنت أشعر أني اهم ابنة وهو أهم أب، إن تكلم أصغيت اليه وان وعظني استمعت إليه وأنا اردد حاضر، كنت واثقة انه يعرف أكثر مني ويدرك مصلحتي أكثر مني، لم أكن أشعر انه يلغيني بل أنه يحميني ويربيني.

لكن في الفترة الأخيرة ظهرت مفاهيم جديدة تحدد مسار هذه العلاقة، وهو التشديد على دور الأب الصديق لأولاده ومن يكره هذا؟ ولكن اليوم سقط الحد الفاصل بين الوالد الصديق والأبناء في معظم العلاقات وتحولت إلى ثورة ناعمة أحيانا ووقحة في أحيان أخرى، تهدف إلى تصغير دوره وتهميشه بمكان.

الصداقة لا تستبدل الأبوة، لأن الأبوة علاقة فيها الكثير من الحب والخوف من جهة الآباء على أبنائهم، فهم يحاولون نقل خبراتهم لأولادهم ووضعها بين أيديهم ليتجنبوا تلك الأخطاء التي مروا بها ولا يقعوا في نفس التعثرات، لأن هدفهم أن يكونوا أنجح منهم، هو جزء عاطفي وعقلي معا لكن الأبناء قد يستخفون بتلك التجارب ويستهزئون بها، فهم يظنون انهم يعرفون أكثر من آبائهم في الحقيقة، نعم قد يعرف الأولاد أكثر من آبائهم ولكن هم حتما لا يملكون إحساس آبائهم، تلك الرغبة الفطرية في حماية الأبناء حتى من أنفسهم.

لكل شاب وصبية إن كان والدكم متعلما أم غير متعلم، لا تستصغروا تجاربه أو تظنوا أن الزمن قد تخطاها، فدورة الزمن ستجعل منكم في يوم ما آباء وحينها ستدركون أي خسارة وأي غرور شبابي مارستموه.

لو أعاد الزمن لي والدي كنت قبلت يده كما كنت أفعل دائما، ولكن وأنا أجثو على ركبتي وأقول له: «علمني قبل أن أخسر عمرك وعمري».

[email protected]