الملف السياسي

تكتيكات استعادة النشاط والبقاء على قيد الحياة!

11 نوفمبر 2019
11 نوفمبر 2019

د. عبد الحميد الموافي -

أصبح من المعروف أن التنظيمات الإرهابية، الموجودة في كل الأديان السماوية والمذاهب، والديانات غير السماوية ايضا، وكذلك كثير من التنظيمات المعارضة العابرة للحدود، أصبحت في العقود الأخيرة إحدى وسائل الصراع والحرب بالوكالة، على المستويات الإقليمية والدولية، أما القيادات المعلنة لتلك التنظيمات فهي مجرد واجهات لأداء أدوار محددة في ظروف محددة، ويتم التخلص منها، أو إبعادها واستبدالها بأخرى عندما تتحقق الأهداف التي جاءوا من أجلها، ليأتي من يكملون المهمة من بعدهم، وفق معطيات الساحة التي يعملون فيها.

اذا كان من المقبول منطقيا أن يقوم شخص، أو بضعة أشخاص، ينتظمون في علاقة او رابطة ما، بعمل أو حتى ببعض الأعمال الإرهابية، في مجتمع أو ضد دولة ما في العالم، أيا كان هذا المجتمع أو تلك الدولة، فانه من المؤكد ان إنشاء تنظيم كبير وقوي ويملك القدرة على العمل الإرهابي الفعال والمؤثر، ويمكنه التمدد في مساحات جغرافية واسعة، هو امر يفوق القدرات الشخصية لقيادة فردية، حتى لو كان اسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» في ثمانينيات القرن الماضي، أو أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الاسلامية « داعش » - في عام 2014. أو غيرها من التنظيمات العابرة للحدود، والمحملة بأفكار وأجندات محددة، وبممارسات خاصة بها ايضا. وذلك لأسباب محددة هي ان مثل تلك التنظيمات تحتاج بالضرورة إلى جهد وعمل وخبرات جهاز أو أجهزة مخابرات تعمل معا، والى تمويل جيد وكبير ومستمر، يفتقر اليه الأشخاص، والى دعم ومساندة إعلامية خفية او غير معلنة تسهم في حمل التنظيم ونشر صورة او صور محددة له وترسيخها لدى الرأي العام، وذلك كجزء من إدارة وتوجيه التنظيم في المستقبل وتحديد مجالات عمله، في ظل ظروف اقليمية ودولية محددة.

ومن هنا فانه اصبح من المعروف ان التنظيمات الارهابية، الموجودة في كل الاديان السماوية والمذاهب، والديانات غير السماوية ايضا، وكذلك كثير من التنظيمات المعارضة العابرة للحدود، أصبحت في العقود الأخيرة إحدى وسائل الصراع والحرب بالوكالة، على المستويات الإقليمية والدولية، اما القيادات المعلنة لتلك التنظيمات فهي مجرد واجهات لأداء أدوار محددة في ظروف محددة، ويتم التخلص منها، أو إبعادها واستبدالها بأخرى عندما تتحقق الأهداف التي جاءوا من أجلها، ليأتي من يكملون المهمة من بعدهم، وفق معطيات الساحة التي يعملون فيها .

واذا كان تنظيم القاعدة، قد ظهر وزادت قدراته، واتسعت اعداد المنضمين اليه من الشباب المسلم المغرر بهم، الذين تم خداعهم بشعار الجهاد ضد الشيوعية والإلحاد، ممثلا في الاتحاد السوفييتي السابق، بعد غزو أفغانستان في آخر ايام عام 1979، وشاركت في الخداع أطراف عدة، فان عمليات التجنيد والتدريب والتسليح، وتوفير الاحتياجات اللوجستية للتنظيم والمنتمين اليه، كانت ولا تزال أكبر بكثير من إمكانات أسامة بن لادن المالية.

وبعد ان ادى تنظيم القاعدة مهمته في تأليب العالم الإسلام، ضد الاتحاد السوفييتي السابق ، وزيادة تكلفة وجوده في افغانستان، حتى اضطرار موسكو إلى الانسحاب من افغانستان في منتصف الثمانينيات، تفتتت وتوزعت المجموعات الجهادية في أفغانستان إلى عدة أحزاب ومجموعات متناحرة، وتاه المجاهدون العرب، أو الكثيرون منهم، فيما بينها، وانتشروا في دول ومجتمعات عدة في المنطقة وخارجها، ومن عاد منهم إلى وطنه ، تم اعتقاله ومحاكمته ، ثم قامت حركة طالبان بالاستيلاء على أفغانستان وعاش اسامة بن لادن في جبال « تورا بورا» والمناطق الوعرة بين افغانستان وباكستان، ضيفا وممولا لحكم الملا عمر زعيم طالبان، ومارست أجهزة مخابرات عديدة تأثيرها على حركة طالبان وتنظيم القاعدة، حتى تمت تصفية أسامة بن لادن من جانب أدارة اوباما وتوظيفها لخدمة حملة إعادة انتخاب أوباما للفترة الثانية عام 2012 .

وباستثناء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي يعمل في بعض محافظات الجنوب اليمني، وتنظيم القاعدة في الساحل الافريقي، وبعض التنظيمات التي ترفع راية القاعدة حينا وداعش حينا آخر، فإن تنظيم القاعدة فقد الكثير من زخمه وعنفوانه وقدراته التنظيمية والعملياتية، خاصة بعد تصفية الكثير من قياداته بعد احداث 11 سبتمبر عام 2001 وقيام جورج بوش الابن باحتلال افغانستان في ذلك العام بزعم محاربة الإرهاب والرد على ضرب برجي التجارة العالميين في نيويورك.

أما ايمن الظواهري، خليفة اسامة بن لادن، الذي يفتقد للكثير من قدرات زعيمه السابق، فيبدو ان مهمته هي مجرد الابقاء على التنظيم موجودا، ولو على الصعيد الإعلامي، وعبر بعض البيانات المتفرقة، مع إدراك أن الإبقاء على تنظيم القاعدة بلا اسنان تقريبا هو للإبقاء على ورقة يمكن استخدامها وتنشيطها وتوجيهها بعد ذلك، إذا ظهرت الحاجة إلى ذلك في المستقبل .

وبالنسبة لتنظيم « داعش » الذي ظهر، بشكله الأخير، في إحدى ليالي يونيو عام 2014، الذي رافقته حملة دعائية بالغة التقدم والتأثير لصناعة صورة مفزعة قادرة على زرع الرعب عن بعد في قلوب من يعلن التنظيم استهدافهم، وهو ما ظهر بوضوح من خلال كسب التنظيم لمعارك والاستيلاء على مدن شمال العراق، كالموصل وغيرها، من دون قتال، بعد ان تركت القوات المدافعة عنها سلاحها ونجت بنفسها، بسبب الدعاية التي حرص التنظيم على بثها في المناطق التي يستهدفها، فإن تلك الدعاية الواسعة النطاق وعالية التقنية والتي ترقى الى الأساليب الهوليودية في الإخراج وصناعة الصورة، وكذلك قدرة التنظيم على التمدد في منطقة الحدود السورية العراقية والسيطرة عليها، والاختيار الدقيق لتلك المنطقة تحديدا، حوالي 240 الف كيلومتر مربع، هي أمور لا يمكن أن تكون من صنع أو جهد ابو بكر البغدادي والقيادة العاملة معه، لأنها اكبر بكثير من إمكاناته وقدراته المالية والتنظيمية واللوجستية والعسكرية والمعلوماتية أيضا، حتى ولو كان قد استولى على كميات كبيرة من الأسلحة في الموصل ومدن شمال العراق الاخرى، أو عاش في المنطقة قبل بضع سنوات منذ تصفية ابو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق عام 2006 ، وظهور «البغدادي» وتأسيسه لداعش في العراق والشام التي انشقت على تنظيم القاعدة .

واذا وضعنا في الاعتبار ما تردد على نطاق واسع ، حول ماضي ابو بكر البغدادي، خاصة اعتقاله في معسكر « بوكا » في العراق والإفراج عنه بواسطة الأمريكيين، واختفائه فترة للإعداد والتدريب، والتخلص من الزرقاوي تمهيدا للإعلان عن تولي ابوبكر البغدادي، فان تنظيم «داعش» ظهر بالفعل من أجل تشويه صورة الإسلام على المستوى الدولي الواسع، ولإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين، عبر الجرائم البشعة التي ارتكبها التنظيم، والتي لا تمت للإسلام بأي صلة، بل تتعارض تماما مع قيم الدين الإسلامي الحنيف من ناحية، ومن أجل الإجهاز على الدولتين العراقية والسورية من ناحية ثانية، وإيجاد حالة من الفوضى والمواجهات المسلحة في أكبر عدد من الدول العربية من ناحية ثالثة، خاصة بعد ان ترك ما يسمى الربيع العربي العديد من دول وشعوب المنطقة في حالة من التفكك والفشل يرثى لها، حتى أصبحت المنطقة العربية اليوم مفتوحة على مصراعيها امام العديد من التحالفات والمبادرات والخطط والترتيبات التي ترفع جميعها شعار مكافحة الإرهاب، وهي تبتز موارد المنطقة، وتطيل امد عدم الاستقرار في دولها، وتسهم في هدم الكثير من بناها الاساسية، وبأيد ووجوه عربية وإسلامية احيانا، ولا تشعر شعوب المنطقة بأية خطوة تقدم على طريق التخلص من تلك الجماعات الارهابية العابرة للحدود، بل ان أطرافا إقليمية طامعة في الموارد والأراضي العربية، حاولت وتحاول توظيف شعار مكافحة الإرهاب للتمدد على حساب الدول العربية، واجتياح أراضيها بشكل أو بآخر. ومنذ عام 2014 وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، لم تتم هزيمة او التخلص من التنظيم الذي ظهر وتمدد فجأة في مساحة كبيرة بين العراق وسوريا وحاول ايجاد تنظيمات فرعية تابعة له، أو تتسربل بردائه في أكثر من دولة ومنطقة عربية وغير عربية، وهو ما يستنزف الموارد والطاقات العربية بشكل غير مسبوق، وفي ظروف تحتاج فيها الدول العربية الى كل دولار من اجل التنمية والبناء وصنع مستقبل افضل لأبنائها.

نعم وبعيدا عن نظرية المؤامرة، فان واشنطن بعد أن فرغت من دفع الاتحاد السوفييتي الى التفكك عام 1991، ومن ثم انكفاء روسيا الاتحادية على نفسها منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، فإنها عملت على إغراق المنطقة العربية في فوضى متعددة الجوانب، عبر التبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في حياة افضل والتخلص من الأنظمة الديكتاتورية، وكان الربيع العربي ولا يزال، بموجاته المتلاحقة اداة هامة في هذا المجال، ولا يهم انه دفع بأكثر من دولة عربية لأن تقع في حفرة الدول الفاشلة بشكل أو بآخر. ومن جانب آخر كانت الدعوة لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وهو إرهاب مصنوع ومعروف من يقف وراءه ويموله ويغذيه بالسلاح والمعدات والاحتياجات اللوجستية، وسيلة أخرى لتسويغ العودة الغربية الى المنطقة ولتكون شعوب المنطقة ممتنة للأصدقاء لدورهم في مساعدتها في مواجهة مخاطر إرهاب داعش وأخواتها، حتى ولو نهبوا مواردها برضى أو بخوف أو بأية صيغة أخرى.

في هذا الاطار فان ما اعلن عن قتل ابوبكر البغدادي ومطاردته في نفق مسدود، هو تكرار مشابه إلى حد كبير لرواية قتل اسامة بن لادن، والتخلص من جثته، وهو ما تم بالطريقة نفسها بالنسبة لجثة البغدادي، حتى لا يسأل أحد عنها، والمؤكد ان الظروف التي تم فيها اغتيال أسامة بن لادن واغتيال ابوبكر البغدادي، متشابهة الى حد كبير، خاصة بالنسبة لرغبة اوباما والآن ترامب في الاستفادة من الاعلان عن ذلك لخدمة الحملة الانتخابية لكل منهم. وإذا كانت هناك تقارير تتحدث عن جوانب أخرى لرواية التخلص من ابوبكر البغدادي ، فان مصداقية مختلف الروايات تظل معلقة حتى تثبت مصداقية اي منها، ولكن المثير ان الرئيس الامريكي ترامب اعلن عن ان ادارته تعرف خليفة البغدادي على رأس داعش، وأنها تتابعه عن قرب، ولم يستبعد ان تنظيم داعش قد يعود بشكل اكثر شراسة!! ولعل المفارقة هي ان خليفة البغدادي، الذي تم الإعلان عنه هو «ابو ابراهيم الهاشمي القرشي» الذي كان زميلا للبغدادي في معسكر «بوكا» بالعراق وأفرج عنه عند الإفراج عن البغدادي .

واذا تركنا الرواية الامريكية جانبا، خاصة وانها محملة بالكثير التساؤلات التي لن تجد اجابات قريبا، فانه يمكن القول أن واشنطن حريصة على استمرار دورها في المنطقة، بغض النظر عن تكرار إشارتها الى الرغبة في تقليص وجودها فيها، وهو ما لن تقدر عليه، لأسباب امريكية اسرائيلية ومالية وتجارية واستراتيجية بالطبع، ومن ثم فان مكافحة ارهاب داعش والتخلص منه ، تظل «مسمار جحا» أو الحجة التي لا يستطيع احد في المنطقة معارضتها، والا تعرض لهجمة أو اخرى من هجمات داعش الهائمة أو المخططة، للتأديب ولاستنزاف الموارد. ويعني ذلك أن داعش كتنظيم لن يختفي قريبا، وانه من غير المستبعد ان تحدث بعض عمليات من جانب التنظيم، داخل المنطقة او في اوروبا، لتذكير الجميع بأنه موجود ومستمر، وربما بشراسة اكبر بعد مقتل البغدادي. وهذا السيناريو يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل اللتين تسعدان باستنزاف موارد العرب في حرب التنظيم «الشبح»، خاصة وان ذلك يخلق معطيات استراتيجية اخرى في المنطقة تخدم مصالح اسرائيل على الأجل الطويل.. يضاف الى ذلك انه بعد ثماني سنوات من النزيف العربي منذ عام 2011 ، ووصول معظم الدول العربية الى حالة من الضعف أو الانكفاء على الذات تبدد أية مخاوف منها، خاصة لدى اسرائيل على مدى سنوات غير قليلة قادمة، وانشغال الكثير منها في عمليات اعادة التعمير والبناء، إذا وجدت أموالا، فان داعش، «التنظيم الشبح»، سيسير على الأرجح على طريق تنظيم القاعدة بعد مقتل اسامة بن لادن، بأن يبقى موجودا كفزاعة وعصا يمكن بها ضرب من يخرج على الطاعة، أو تخويفه ليكون اكثر استجابة وتفاعلا مع المصالح الأمريكية والاسرائيلية، وهو ما قد يقتضي بعض العمليات للذئاب المنفردة أو لمجموعات صغيرة، ترفع راية داعش أو يتم رفعها عليها، تعبيرا عن مجرد الوجود على قيد الحياة، فالصراع في المنطقة وعليها سيستمر طويلا للأسف الشديد، وندفع نحن ثمنه من حاضرنا ومستقبل أبنائنا. ومكافحة الإرهاب اكبر بكثير من اغتيال بعض القيادات الإرهابية، لأن المكافحة تبدأ فكريا وتستمر وتتعزز بالعمليات العسكرية والأمنية المدروسة.