1364741
1364741
المنوعات

مرفأ قراءة .. تـراث طـه حسيـن في دار المعـارف

09 نوفمبر 2019
09 نوفمبر 2019

إيهاب الملاح -

ليس هناك من أبناء جيلي، ومن الأجيال السابقة، من لا يذكرُ طبعات كتب الدكتور طه حسين (الذي تحل ذكرى رحيله، وذكرى ميلاده، هذه الأيام) بأغلفتها التي تتصدرها صورته الشهيرة بنظارته السوداء، ووضعية يده أسفل ذقنه، تلك الصورة التي انطبعت في أذهاننا منذ تفتحت أعيننا على روائع طه حسين، وأعماله العظيمة في الأدب والنقد، والفلسفة والفكر، والإسلاميات، والدراسات الأدبية، واللغوية، والتاريخية.. إلخ.

وليس هناك من له أدنى صلة بالقراءة أو اتصل بالثقافة بسبب، لم يقرأ كتابًا واحدًا على الأقل لطه حسين، أو اقتنى في مكتبته واحدًا من كتبه في طبعتها الأصلية المدققة المشهورة عن (دار المعارف) التي احتضنت طه حسين، وَزَهَت به، وحرصت كل الحرص على اتصاله بها، ونشر كتبه منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى وفاته في 28 أكتوبر سنة 1973، ولعلّ مكتبة الأعمال الكاملة لطه حسين التي اضطلعت دار المعارف بنشرها وتوفيرها لعموم القراء، لأكثر من نصف قرن، كانت وما زالت هي الأهم والأقيم والأجدر بالاقتناء من بين كل الطبعات التي صدرت لكتب طه حسين (شرعية أو مزورة).

وحكاية عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، مع دار المعارف، حكاية فريدة، غنية، وافرة المتعة والفائدة والتاريخ.

كان الدكتور طه حسين يحب دار المعارف، ويثق فيها ويكثر من زيارتها في مختلف المناسبات (وما أكثرها في ذلك الزمن الزاهر)، ويعرض على القائمين عليها اقتراحاته وآراءه في نشر الثقافة، وإن كثيرًا من المجموعات والسلاسل التي لا تزال الدار تقوم على نشرها، حتى اليوم، هي من ثمار آرائه السديدة، ورعايته لها ومباركته إياها، ومشاركته فيها أيضا.

بدأت علاقة طه حسين المباشرة بدار المعارف ذات يوم من أيام عام 1930، عندما اصطحب عميدُ الأثريين المصريين وشيخُهم، الدكتور سليم حسن، العميدَ طه حسين إلى مكتب «شفيق نجيب متري» صاحب دار المعارف ومديرها، كي يعرض عليه طبع كتابه «قادة الفكر»، ومن حينها، لم تنقطع علاقة طه حسين بدار المعارف حتى توفاه الله في سنة 1973. لكن علاقة طه حسين بمطبعة المعارف ومكتبتها تعود إلى ما قبل ذلك بقليل، إذ كان طه حسين وقتها في كامل عنفوانه الفكري، ولياقته الإبداعية والنقدية، وحضوره «الكاريزماتي» الطاغي، وكانت آثار معركة كتابه «في الشعر الجاهلي» لم تنقشع بعد، وما زال في الأجواء بعضٌ من غبارها ودخانها.

وبمراجعة أقدم قائمة لمنشورات (مطبعة المعارف ومكتبتها) عام 1931، والتي احتوت أيضًا على تعريفاتٍ بأشهر كتابها ومؤلفيها، وكان منهم الدكتور طه حسين، سنجد قائمة المنشورات (مطبعة المعارف ومكتبتها) قد أوردت تعريفها بالدكتور طه بالعبارات التالية:

«الدكتور طه حسين، عميد كليه الآداب في الجامعة المصرية.. من دهاقين الأدب العربي وأساطينه، صاحب الصيت الذائع بمباحثه الرائعة في مختلف فنون الآداب والعلم، أما مؤلفاته فهي من الطراز الأول في غزارة المادة، وقوة البيان، يتهافت عليها قراء العربية في جميع الأقطار والأصقاع، تهافت الجياع على القصاع».

وبهذه اللغة التراثية الكلاسيكية الفخمة، وصور بلاغتها القديمة المستمدة من تراث الأدب العربي القديم، نوَّهت مطبعة المعارف ومكتبتها بمؤلفها الشاب (كان عمر طه حسين وقتها اثنين وأربعين عامًا)، وعرّفت به أعظم تعريف وأجزله، وألمحت إلى المعارك التي خاضها طه حسين، وخرج منها وهو ملء الأسماع والأبصار، وقلمه من أَحَدّ الأقلام وأسنِّها أيضا!

كان طه حسين «الكاتب النجم» الذي تتقاطر عليه دور النشر وأصحاب المطابع كي يظفروا منه ولو بقصاصة تطبع لديهم تكون ممهورة باسمه، كان اسم طه حسين كفيلا برفع معدلات التوزيع إلى أرقام غير مسبوقة، وإلى جعل جمهرة القراء يقبلون على أعماله في الدار بصورة رائعة.

في الوقت ذاته، كان العميد فخورًا بدار المعارف معتزا بها يحمل لها تقديرا ومودة كبيرين، وكان حريصا على أن تكون أهم أعماله وأقدرها بالعناية اللائقة والإخراج الجميل والتحرير المدقق منشورة في دار المعارف، وصادرة عن دار المعارف، وممهورة بخاتم وتوقيع دار المعارف.

ويروي الأستاذ شفيق متري، مؤسس نهضة دار المعارف الزاهرة، بعضًا من ذكرياته مع طه حسين ويحكي عن المرة الأولى التي التقى فيها العميد بمكتبه بدار المعارف، ذات يومٍ من سنة 1930، يقول:

«منذ أكثر من أربعين عاما، وفي يومٍ كنت أحسبه كسائر الأيام، يُقبل إقبالها، ويُدبر إدبارها، ثم يطويه الدهر فيحيله ماضيا انقضى دون أن يُحدث في الحياة من الأثر إلا قليلا. كان ذلك عام 1930 أو قبله بقليل، يوم طرق عليّ باب «مكتبة المعارف ومطبعتها بالفجالة» أستاذ علم الآثار والتاريخ المصري القديم المرحوم الدكتور سليم حسن، وكان يصطحب لأول مرة فقيد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

قال الدكتور سليم حسن ما معناه: إن الكاتب يكتب فيحسن ويجيد، ثم يدفع بكتابه إلى دار النشر أو الطباعة فيصدر عنها في ثوب قد يكون قشيبا يدفع القارئ إلى الحفاوة بما يقرأ، وقد يكون هذا الثوب زريا فيجعله يعرض عن هذا الكتاب إعراضا، فعقب حضرة عميد الأدب العربي بما معناه:

وقد جئناك اليوم بكتابي «قادة الفكر» ليصدر عند دارك في هذا الثوب القشيب. فماذا أنت فاعل به؟ إذا احتفى القراء به وبمن كتبه فأنت شريك في الفضل ، وإن أعرضوا... ولن أزيد.

ومهما أكن قد أنسيت من الألفاظ والعبارات، فإنني لن أنسى وقع هذا المعنى من نفسي.

وظهر كتاب «قادة الفكر» في ثوبٍ عدَّه الدكتور العميد قشيبًا.. وتحول المؤلف الكبير صديقًا كبيرًا، يفسح من قلبه الكبير مكانا عزيزا لشخصي ولدار المعارف، ويفسح لي من وقته الغالي ما أُفضي له فيه بما يتردّد في نفسي من خواطر وأفكار».

ومن أيام دار المعارف المشهودة مع الدكتور العميد يوم الاحتفال بعيدها الذهبي (مرور خمسين عاما على تأسيسها) عام 1941 وكان قد صدر عن الدار طبعة محققة فاخرة من كتاب «كليلة ودمنة»، وثق مصادرها وحقق نصها الدكتور عبد الوهاب عزام، وقدمها إلى القراء الدكتور طه حسين تقديما هو دراسة قيمة تُقرأ لذاتها.

وكان شفيق متري صاحب مطبعة المعارف المصرية ومكتبتها (دار المعارف)، قد نظم حفلا باهرا في منتصف العام ‬1941، بمناسبة العيد الذهبي لتأسيس المطبعة، دعا إليه لفيفا من الوزراء والأدباء والمفكرين. وتحدث في الحفل مجموعة كبيرة من المفكرين والسياسيين، ومنهم: د.طه حسين، وعبد العزيز البشري، ومحمد أحمد جاد المولى.. وآخرون.

وبهذه المناسبة ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين خطابا قال فيه:

«فقد كان عهدي بالكتب التي ننشرها في مصر أنها تكلفنا ما تكلفنا من العناء في تأليفها وإذاعتها، ثم لا نجني منها شيئا، أو لا نكاد نجني منها شيئا، وربما كلفتنا إلى العناء العقلي أثقالا مالية لم نكن نقدر على احتمالها في كثير من الأحيان. فلما اتصلت بمطبعة المعارف ومكتبتها تغير هذا كله تغيرا تاما. ومن المحقق أن المرتب الذي كنت أتقاضاه من الجامعة لم يكن من شأنه أن يمكنني من الرحلة إلى أوربا في كل عام هناك حيث كنت أفرغ للراحة أولا، ثم للدرس والإنتاج بعد ذلك. فأنا مدين بالرحلة المنظمة إلى أوروبا، وبما أتاحت لي هذه الرحلة من راحة وإنتاج لمطبعة المعارف ومكتبتها».

ويروي شفيق متري كيف ولدت سلسلة (اقرأ) العريقة في رحم هذه المناسبة، يقول:

«وألقى رحمه الله في ذاك اليوم كلمة أرسى فيها قواعد رسالة النشر والناشرين. ومن أيامه معي يوم طرحت فيه أمامه فكرة سلسلة من الكتيبات تصدر كل شهر، زهيدة الثمن رفيعة المستوى مؤلفة غير مترجمة بأقلام كتاب من كل طرف من أطراف الوطن العربي يقرأها العرب في كل رجا من أرجاء الوطن العربي. كان ذلك في يوم من أيام عام 1942، فانطلق، رحمه الله، بما معناه: إنّ العرب الذين نراهم اليوم منقسمين، ونرى أهواءَهم شتَّى، لن يجمع كلمتهم - يوم تجتمع - إلا نسيجٌ فكري متجانس، تنسج خيوطه أقلام كتَّابهم جميعًا، فيشترك في قراءة آثار أقلامهم قراء العربية قاطبة.. بمثل هذا ستجتمع كلمتهم يوما بفضل الله.

أصدر سلسلتك يا شفيق، وسمها «اقرأ»..

وقد أتحفها بكتابه الأول «أحلام شهر زاد» فكان فاتحة الخير العميم والبركة الشاملة».. وطوال ثلاثة وأربعين عاما متصلة، نشر طه حسين الطبعات الأولى من أعماله في دار المعارف، وأعاد نشر ما لم ينشر فيها مرات ومرات، وارتبط اسم الدكتور العميد بكل مناسبة عزيزة ونشاط مبدع لدار المعارف، وكان أحد أركانها الركينة في إبداعاتها المبتكرة وسلاسلها المخترعة، يذهب إليه شفيق متري بالفكرة تجول بخاطره، فيؤيده ويدعمه ويكون على رأس المشجعين، بل المشاركين بفعالية وحيوية في هذا المشروع أو ذلك النشاط.