أفكار وآراء

فيسبوك.. كأيديولوجيا رقمية !

06 نوفمبر 2019
06 نوفمبر 2019

محمد جميل أحمد -

قد لا تبدو المسافة التي ألغتها ثورة المعلوماتية والاتصال، منذ تسعينات القرن الماضي، بين البريد العادي والبريد الإلكتروني، مُتَصَورةً أصلاً لأجيال الألفية الجديدة، لكن تلك المسافة التي تم إلغاؤها بالتسريع الهائل الذي وسم ايقاع الحياة الرقمية الموازية لحياتنا العادية، والمتغولة عليها أيضاً ــ لايزال حتى اليوم هناك جيل من المخضرمين يتذكرها جيداً ؛ ممن عاشوا طرفاً من شبابهم قبل وبعد ثورة المعلوماتية والاتصال.

لقد كان إيقاع الحياة البطيء (قبل اكتشاف الألياف الضوئية التي قامت على اكتشافها ثورة المعلوماتية والاتصال) يعكس هويةً بدت كما لو أنها طبيعية في ذلك العالم (عالم ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال الذي تطور هو الآخر عن أزمنة أخرى) لكن ما حدث هو أنه خلال عشريتين ؛ تم انجاز ما لم يكن متصوراً انجازه إلا بمئات السنين.

لهذا ربما بدا الأمر حتى الآن غريباً للجيل الذي عاش طرفاً من شبابه قبل تسعينات القرن الماضي (وكاتب هذه السطور منهم).

ذلك أن الحياة في ظل هذا الإيقاع المتسارع، لاسيما بعد بروز وسائل التواصل الاجتماعي في النصف الثاني من العشرية الأولى للألفية الثالثة، كفيسبوك وتوتير، ويوتيوب لا تطرح معيارها لمفهوم السرعة في التواصل فحسب بل كذلك تطرح عالماً موازياً حتى الآن، في تقديرنا، ليس هناك امكانية لفهمه فهماً يعكس حيثيته الحقيقية وهويته الكاملة.

فالجيل الذي عاش طرفاً من شبابه قبل تسعينات القرن الماضي، سيتعين عليه أن يكون باستمرار متصلاً بذاكرته الأولى عن معنى التواصل كعلامة بريدية (من البريد العادي) ما يعني أن قدرته على استدعاء الحنين إلى زمن «العناوين الصغيرة والبريد» ـــ كما قال محمود درويش ــ ممكنة وسريعة.

تصورات جيل الألفية الثالثة (الذين ولدوا في عام 2000 وما بعده) ستكون غير مستوعبة أصلاً لطبيعة ذلك السكون والبطء (البريدي) الذي كان يلف العالم في تواصله ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال.

لكن طابع السرعة هنا (الذي هو أخص خصائص تعبيرات العالم الرقمي) قد لا يكون هو المعيار الأمثل لتعبيرات أخرى لا تقوم سويتها على شرط السرعة الفائقة، مثل عملية إنتاج المعرفة التي لا تحتمل، لا في طبيعتها ولا في منهجياتها ـ تلك السرعة الفائقة التي تتم بها الأمور في عالم التواصل الرقمي عبر تلك الوسائط. وبالتالي فإن استيهام تطبيقات سرعة العالم الرقمي على منهجيات المعرفة سيؤدي بالضرورة إلى تجاوز قوانين وشروط انتاج المعرفة، وفي ظل تحدٍ للمعرفة كهذا حيال تطبيقات رقمية متاحة مجانا وللجميع ـــ مثل فيسبوك ـــ ستنتج بالضرورة تصرفات مخلة بشروط المعرفة تحت ضغط إغراء تطبيقات الفيسبوك وشبكته الأوقيانوسية التي من شأنها أن تمثل إغراءً لا فكاك منه من الميل، للتعبير في شروط ذلك الفضاء الأزرق عن أشياء كثيرة يمكن الحصول عليها بسهولة وخرق عالمها المفتوح بطبيعته.

بمعنى آخر، أن عقل الحداثة الغربي الذي أنتج شبكات العالم الرقمي والتكنولوجي تقتضي طبيعته (كعالم مفتوح) قوانينَ غير مكتوبة أو تفاهمات مضمرة يدرك عبرها الفرد الحديث في ذلك العالم حدود التعامل وطبيعته مع تلك الشبكات.

لكن بطبيعة العلم الإنسانية وهويته المشتركة، من حيث كونها قائمة على تشارك البشر ثمار المعرفة فإنها تقتضي تعميماً للتطبيقات الرقمية وبرامج الانترنت بما يجعلها متاحة لكافة البشر، وهنا سنجد أنه قد لا يستجيب البشر في عالم يسكنه التخلف بسوية عقلانية مفترضة حيال ممارساتهم لتلك التطبيقات.

وهكذا، بين الدخول في عالم رقمي (لا يعني التخلف عنه سوى الموت) قد يكون الدخول ذاك مستوفياً ــ ولو بالتدرج ــ لشروط تفرض إكراهاتها على عالم التخلف من أجل المواكبة العالم الحديث. وفي هذا الشرط بالذات تظهر تعبيرات التخلف السالبة عبر استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي كفيسبوك ويوتيوب وتويتر، بما يوحي بأن تلك الوسائط الحديثة هي شرط ذاتي للشر المحتمل الذي ينشأ من تطبيقات مستخدميها الخاطئة.

لهذا لابد من أيديولوجيا متخلفة تواكب طبيعة الاستعمال المتخلف لوسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعات التخلف (كالمجتمعات العربية) وتبرر لها مسوغات قد تهدر قواعد حياة ومعرفة لا بد منهما لتجنب الفوضى، فيعتقد البعض، مثلاً، أن السرعة في العالم الرقمي قرينة « السلق» المعرفي في استخدامات تلك الوسائط، بما يعنيه ذلك من احتمالات كارثية قد تتجاوز «السلق» إلى «السرقة» من الاستخدامات المجانية التي يوفرها قوقل عبر قاعدة معلومات لامتناهية.

هكذا نجد أن أشقى المجتمعات بوسائل التواصل الاجتماعي هي تلك المجتمعات المتخلفة التي تنعكس هويتها الضالة انعكاساً متوحشاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي لكن وعيها المفكك يحيل باستمرار إلى سبب التطبيق لا إلى طبيعة الاستخدام.

وإذا كانت ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي لا تخلو من ردود فعل سلبية متحكم عليها بدرجة كبيرة في المجتمعات المتقدمة؛ فإن ذلك ناتج، في جزء منه، لأنها توفر إمكانات متساوية النماذج في الاستخدام لبشر غير متساوين في قدراتهم!