أفكار وآراء

مدخرات الأجيال.. أرصدة من الموارد والمسؤوليات

03 نوفمبر 2019
03 نوفمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

يقتضي سياق الحديث هنا الأخذ في الاعتبار وضع مجموعة من المحددات لدورها المباشر في التأثير على العمليات التي تبلور بما يسمى بـ «مدخرات الأجيال» ومن هذه المحددات:

أولا: النمو السكاني؛ وهو نمو تصاعدي، يفرض استحقاقات آنية، ومؤجلة على صناع القرار في المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، مع الأخذ في الاعتبار، أهمية كل ركن من هذه الأركان الحيوية، والتي تفرض أهميتها من خلال الدور الذي تقوم به في حيات الأجيال.

ثانيا: محدودية الموارد الطبيعية؛ وأهمية تقنين استنزافها، وبما يستوجب وضع الاستراتيجيات، والخطط، والبرامج الذاهبة إلى المحافظة على ديمومتها، وعدم تعرضها إلى الاستنزاف الجائر، لمعالجة أوضاع راهنة، وعدم احتساب القيم المضافة للأجيال القادمة.

ثالثا: نمو المعرفة؛ وهذا يوصف بالرصيد الـ «دائن» وذلك نظرا لحيوية الحراك المعرفي الذي تعيشه المعرفة في مختلف مجالات الحياة، وأنشطتها، وهذا من شأنه أن يوجد وسائل، وطرق، وحلول جذرية لكثير من المعوقات التي تسعى للبقاء على حق الأجيال في كل أرصدة الوطن، وهذا بدوره يعفي صاحب القرار من الوقوع في مطب القرارات الارتجالية، وغير الممنهجة، لأن المعرفة تظل قادرة على وضع الحلول لأعقد المشكلات.

رابعا: العالم المفتوح، وأثر ذلك على إرباك القناعات، وبلورة وعي جديد (عمليات التأثير والتأثر) وهذا بدوره يجدد القناعات وبما يتناسب مع الظروف التي تعيشها الأجيال، حيث لا خيار للاستسلام؛ وفق ما اتفق؛ وهذا من شأنه أن يجبر صاحب القرار على تبني سياسات تقشفية، نظير الضغط الشعبي الواعي، الذي يستلهم الرؤى والأفكار مما يعايشه من أحداث تقوم به شعوب العالم.

ومن خلال ما تم التطرق إليه، وربما هناك مقومات أخرى في هذا السياق، يأتي الحديث عن حقوق الأجيال في «مدخراتهم»، تستطيع من خلاله أن تواصل نشاطها الإنساني، وتحمل الرسالة التي تستلمها من الأجيال التي قبلها، فالحياة الإنسانية؛ كيفما تعيشها الأجيال؛ تظل سياقا متواصلا، يتبادل من خلالها الأدوار، والمسؤوليات، ولا يجب؛ بأي حال من الأحوال؛ أن يكون هناك انفصال أو لحظات فاصلة من التأريخ الإنساني، الذي استطاع عبر مسيرته الزمنية الطويلة أن يتراكم، معرفيا، وماديا، ليكون في محصلته حضارته؛ وفق مفهومها الشامل.

تظهر على السطح اليوم شكوى، في طريقها إلى أن تكون ظاهرة، وتتمحور حول حالة «اللا مبالاة» وعدم الاهتمام، ويتبنى هذه الصورة السلبية نسبة كبيرة من جيل اليوم؛ كما هو ظاهر؛ ومظاهر ذلك عدم الجدية، وعدم الالتزام، وعدم احترام القيم والنظم؛ سواء الاجتماعية، أو الإدارية، والإصرار أكثر على المكسب والمطالبة بالاستحقاق بما لم يتحقق بعد، وهذه من الإشكاليات، أو المحددات المعيقة للانطلاقة الذاهبة إلى تبني الأفكار وإلى التطور، والتحفيز، ولذلك عند النظر إلى الدولة المدنية؛ في عدم تحققها على أرض الواقع؛ لأن كثيرا من مفردات تحققها لا تزال رهينة الخروج من مأزق هذه الإشكالية، التي تكبلها، أو تبطئ من سير خطواتها الوثابة نحو المستقبل، ووفق هذا السياق اختلط العام بالخاص، والخاص بالعام، فتنامت الاتكالية، أكثر منها المبادرة، وما كان ذلك يفترض أن يكون، وهذه أثرت تأثيرا كبيرا على الاستفادة من السياقات المعرفية، واستخداماتها الكثيرة في كل ما من شأنه أن يذهب إلى الاهتمام بمقدرات الأجيال، واستحقاقاتها في كل فترة زمنية تمر، لأن الفكرة ظلت وفق مفهوم «كل راع مسؤول عن رعيته» وبالتالي فكيف للراعي أن يحقق كل طموحات هذه الرعية؟

هنا لا أحد يسأل عن ذلك، ويكفي أن يحمل الراعي كل التبعات صغيرها وكبيرها، دون حتى مساهمة مباشرة من الرعية، مما عزز الاتكالية، وعدم الاهتمام الصادق من جانب الرعية، وهذه الصورة غير الصحية، ولا يرتهن من خلالها على رؤية واضحة تحقق الديمومة والاستمرارية لحق الأجيال المتوالية.

نظر إلى «العولمة» كمشتغل حديث، ومفردة من المفردات المهمة في الحياة الحديثة - ظهرت كمفهوم وممارسة في سبعينيات القرن التاسع عشر - على أنها المنقذ، من كثير من التجاذبات، أو التعقيدات، أو المحددات، التي لا تزال تحفل بها الحياة التقليدية في كثير من المجتمعات، ولكن «العولمة» بما حملته معها من مشروع عالمي؛ يكاد يكون استعماريا أكثر منه إصلاحيا؛ تجاوز حدود الزمان والمكان، تجاوز التقديرات المتوقعة، وقد ساعدها على ذلك الثورة الاتصالية الهائلة؛ والتي بدورها تجاوزت استيعاب الناس لها؛ وبذلك وبدلا من أن تكون «العولمة» إحدى الحواضن التي؛ يفترض؛ أن تحافظ على شيء من حق الأجيال، فإذا بها تلتهم الأخضر واليابس، دون أدنى اعتبار لحق الأجيال المتتابعة في أن تعيش آمنة مطمئنة، ولم يخطء من شبه مشروع «العولمة» بأنه الحوت الأكبر الذي يتلهم كل ما هو أمامه دون أي اعتبار، وهذا المشروع، وإن حقق شيئا مما تسعى إليه الأنفس الإنسانية المجبولة على الطمع، إلا أنها؛ في المقابل؛ قوضت كل العلاقات القائمة سواء الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الثقافية، أو السياسية، كعلاقات تكاملية، أو توافقية، وبقي السيناريو الوحيد الذي تشتغل عليه «العولمة» وهو القائم على مبدأ الربح والخسارة الآني، وغير القابل للتأجيل كذلك، أما ما هو يؤرخ للبشرية نقطة تحول؛ قابلة للمراجعة والتوظيف بما يحقق مستقبل آمن للأجيال؛ فذلك غير موجود على قائمة مشروعات «العولمة» وكأنه أعيد انتاج كل شيء من جديد لخدمة هذا المشروع الاستعماري، ومع مرور الزمن أصبحت العولمة مكونا عضويا في مفهوم كل العلاقات القائمة بين الناس اليوم، تقرأها في مرح الأطفال، كما تعيشها في سلوكيات الكبار، وكأنهم ولدوا وفي أفواههم ملاعقها، ويذهب الخوف اليوم أكثر من الانسلاخ التام لكل ما هو محلي، أو وطني، وهذا بدوره يؤصل قناعات الفردية المغرقة في الخصوصية، فكل ما متاح هو لي، «وليذهب الجميع إلى الطوفان» وهذا شعور إن تعمق أكثر، فله نتائج خطيرة على حقوق الأجيال، ومدخراتها.

هل أصبح الإنسان غير طبيعي؛ نطرح السؤال هنا؟

وما الذي يجعل الإنسان يقفز من حالته الطبيعية إلى غير الطبيعية؟

ينظر إلى حالة الرخاء المادي المطلق إلى أن له الدور الكبير في خروج الإنسان من حالته الطبيعية، إلى حالته غير الطبيعية، والحالة غير الطبيعية هنا؛ هي الخروج عن المألوف، حيث يصل به إلى البطر، والبطر؛ كما هو الغالب؛ يغير الأحوال، ويقلب موازين الحياة رأسا على عقب، ومن يكتوي بذلك في نهاية الأمر هي الأجيال المتلاحقة، فالإسراف في استثمار الموارد الطبيعية إلى حد الهدر، يقضي على كل ما يمكن أن يبقى للأجيال المتلاحقة في الحياة، وغير الطبيعي هنا هو الخروج من مستوى الحاجة فقط، إلى مستوى الرغبة؛ ويمثلها: الترف، والاستحواذ على ما في يد الآخر بأي وسيلة متاحة، مشروعة أو غير مشروعة، وغير الطبيعي هنا أن يتملص الإنسان عن مسؤولياته وواجباته، مع حرصه الشديد على المطالبة بحقوقه فقط.

وهذا بدوره يعكس انسحابا؛ مبررا أو غير مبرر؛ من التأسيس السليم لمقومات الحياة الإنسانية في أي عصر يكون، فالإنسان؛ مهما غالبه شعور الذاتية المغرقة في الخصوصية؛ يبقى مسؤولا عن اللحظات التي يعيشها في صناعة التأريخ، ولا يمكن؛ بأي حال من الأحوال؛ أن يعذر أو يبرأ من أية مسؤولية تجاه المساهمة في حق الأجيال المتلاحقة، والنظر على أن ولي الأمر هو فقط من يتحمل المسؤولية كاملة، فهذا التقييم غير صحيح، أبدا، فكل فرد في أي مجتمع هو مساهم، وفق إمكانياته ومسؤولياته الفردية، في حق الأجيال، وأقلها غرس شجرة في طريق عام، وتعهدها بالرعاية والعناية حتى يشتد عودها وتؤتي ثمارها لآخرين، غير حاضرين في الذاكرة لحظة غرس الشجرة.

ختاما؛ تذكر أحداث التأريخ؛ وبكل أسف؛ أن هناك دولا كثيرة كانت تعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة من الحياة النظرة، ولكن لأن شعوبها لم توفق في الحفاظ على خيراتها، وما أنعم الله عليها من الخير العميم، تماهت، ولم يعد لها شأن، وانتقلت من دور المعطي والواهب، إلى دور المستجدي والمعوز، حيث استنفدت الأجيال السابقة كل مقدرات الدولة، ومقوماتها الأساسية، وجاءت الأجيال اللاحقة، لتجد الأرض يبابا من كنوزها وثرواتها، ومقدراتها المادية، ومواردها الاقتصادية، وتاريخها الإنساني الجميل.