1358082
1358082
المنوعات

نجيب محفوظ و«روايات الجيب»!

02 نوفمبر 2019
02 نوفمبر 2019

إيهاب الملاح -

ثمة اعتقاد شائع وسط كثير من الشباب بأن الكتاب الكبار ولدوا كبارا! لم يفعلوا شيئا سوى قراءة الكتب والروايات «الفخمة»، «الضخمة»، ثم كتبوا ما كتبوا وكأنهم صنف مغاير من البشر، لا ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم منذ الميلاد وحتى الرحيل.

صحيح أن أصحاب المواهب الكبرى والاستثنائية، وحدهم، يكسرون القواعد ويؤسسون لمدارس جديدة على أنقاض ما سبقها، لكنهم في النهاية لا يفارقون دائرة البشر، ولدوا ونشأوا صغارا ولعبوا مع قرنائهم وتفتحت عيونهم على مجلات وكتب الأطفال والمواد المسلية، محطة عبور رئيسية وتأسيسية في حياة أي كاتب محترف بدونها لن يكون، ولن يصير إلى ما صار إليه.

قد يستغرب كثير من الشباب والناشئة ممن يتعرفون على أدب نجيب محفوظ للمرة الأولى، أو قرأوا له شيئا ولمَّا يتعمقوا بعد في عالمه الرحب الفسيح، أقول قد يستغربون إذا ما علموا أن هذا الروائي العظيم مهيب المقام قد استهل قراءاته الأولى بكتب الجيب المتوفرة في زمنه.

تحدث نجيب محفوظ باستفاضة، وفي أكثر من مناسبة عن هذه الفترة الباكرة من حياته، فترة النشأة والتكوين، كيف انجذب إلى عالم القراءة، وتعرف على الأحرف الأولى في كتاب غير مدرسي، خارج دائرة المناهج المقررة، روى تفاصيل هذه الفترة المهمة والتأسيسية في حياته التي كانت نقطة الانطلاق إلى كل ما حققه وأنجزه الرجل عبر ما يقرب من القرن!

توقفت كثيرا عندَ مَا رواه لجمال الغيطاني في «نجيب محفوظ يتذكر»، والمضمون ذاته مع اختلاف في ترتيب الوقائع والأحداث لرجاء النقاش في كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، وأيضًا ما ذكره من تفاصيل نابضة بالحيوية في حديثين مهمين أدلى بهما للناقد والصحفي فؤاد دوارة في كتابه اللافت «عشرة أدباء يتحدثون».

يقول دوارة في كتابه المشار إليه: «كان من الطبيعي أن يكون سؤالي الأول لنجيب محفوظ عن قراءاته.. كيف بدأت وكيف تطورت؟ وطلبت منه أن يجيب بتفصيل وإسهاب.. وجاءت إجابة محفوظ كما يلي: «بدأت قراءاتي بالروايات البوليسية «سنكلير» و«جونسون» و«ميلتون توب»، وغيرها من الروايات التي كان يترجمها حافظ نجيب بتصرف، وكانت منتشرة هي وأمثالها في أيام طفولتنا. كانت هذه الروايات هيكل قراءاتي الأولى في أواخر المرحلة الابتدائية وأوائل الثانوية».

وتحدث محفوظ بتفصيل أكبر في حديثه لجمال الغيطاني، موضحًا اللحظة التي انفتح فيها على أبواب السحر ومدائن الغرائب، عندما وقعت بين يديه إحدى روايات روكامبول، (وفي رواية ابن جونسون). الجميل أن نجيب محفوظ قد سجّل روائيا هذه اللحظة السحرية التاريخية التي تعرف فيها للمرة الأولى على روايات الجيب، فانقلبت حياته رأسًا على عقب، في حكاية رائعة من عمله الفذ الذي لم ينل ما يستحقه من شهرة واهتمام «حكايات حارتنا»، يقول نجيب محفوظ في الحكاية رقم (20):

«يحيى مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا، وصديقي المفضل في المدرسة الابتدائية.

أجده يوما يقرأ كتابا في الفسحة فأسأله:

ـ ما هــذا؟

ـ «ابن جونسون».. الحلقة الأولى من مسلسلة بوليسية جديدة.

ويعيرني الكتاب بعد فراغه، فأقرأه بسعادة لم أجد مثلها من قبل. وأواظب على قراءة السلسلة.. ثم أنتقل من سلسلة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر، ثم أدمن القراءة.

وأصير مع الزمن بطلًا من أبطال القراءة.. أما صديقي فيهجرها سريعا، ثم يتربع على عرش الكرة..».

ويتربع محفوظ على عرش الكتابة والأدب والرواية بلا منازع بسبب إدمانه للقراءة التي صار فيها «بطلا من أبطالها».

والسؤال: إذا كان عميد الرواية العربية استهل حياته وقراءاته بالروايات البوليسية وكتب الإثارة والتشويق التي مهدت الطريق ونقلته من عالم إلى عالم ومن مرحلة إلى مرحلة.. فلماذا يخشى الآن البعض من هذا اللون من الكتابة بمستحدثاته وتطوراته وطبعاته العصرية؟ لماذا يحذر كتّاب كبار من قراءة البيست سيللر، ومنهم من تصل به المغالاة إلى حد التحذير من «الخطر الداهم على الآداب» من هذه الكتابة؟

في ظني أن من يقول بهذا الرأي لا يدرك قانون الأشياء، وسير التطور، ويقع في حبائل التطرف والإقصاء وفرض الرأي، في الوقت الذي يمكن أن تشير فيه كتابته إلى عكس ذلك على طول الخط! الآن هناك كتابة رائجة اختلفت أشكالها وألوانها وصنوفها، أصبحت هناك سوق كاملة موازية لحركة التلقي الأدبية بمعناها «الرفيع»، بحسب تعبير البعض، أو بمعناها المتفق عليه بين قراء الأدب المحترفين والنقاد ودارسي الأدب المستنيرين!

هذه السوق كبيرة وضخمة، تتسع وتكبر وتكسب جمهورًا جديدًا من المقبلين على القراءة تتراوح أعمارهم بين 12 عاما، و20 عاما، وربما حتى الـ30!

صحيح أن هذه السوق تتسم بالفوضى والعشوائية، وتدفق النشر بلا ضابط أو رابط، دون أي محددات، لكن من قال إن هذا لم يكن موجودًا في العقود السابقة، من قال إنه ليس في كل وقت هناك كتابة رائجة، مسلية، تعتمد الإثارة والتشويق منهجًا، منها كتابة تقوم على مخاطبة المشاعر والغرائز، ومنها كتابة تستهدف قطاعات واسعة من الشباب تسعى إلى مخاطبتهم بلغتهم، بل أحيانًا تبتز مشاعرهم وانتماءاتهم الاجتماعية والثقافية، لكنها في النهاية تصب كلها في خانة أكيدة، خانة يغفلها المتخوفون ولا يراها المتربصون!

هذه الخانة هي ما أسميه بالتحول الطقسي، أي تحول فعل القراءة إلى طقس، معتاد، متكرر، جزء لا يتجزأ من سلوك صاحبه اليومي، كالطعام والشراب وتنفس الهواء، طقس مرشح بصاحبه أن ينتقل من هذه الدائرة إلى دوائر أخرى من القراءات الأوسع والأنضج، وهو ما حدث بداهة مع كل من بدأوا حياتهم بعشق القراءة من خلال «كتب وروايات الجيب» وانتهوا إلى أن صاروا كتابا كبارا أو نقادا مرموقين أو مثقفين «ملو هدومهم»! لماذا لا نرى بعين الواقع تطور الأشكال والقوالب في هذا الجانب مثلما تتطور الأشكال الفنية في الأدب ذاته.

هل نسمع الآن عن «سنكلير» و«روكامبل» و«جونسون» الأب والابن، وغيرها، من الأسماء التي ذكرها محفوظ باعتزاز شديد؟ الإجابة قطعا بـ«لا»! لماذا؟

لأن هناك أعمالا أخرى وقوالب جديدة تناسب العصر ظهرت لتلبي هذه الحاجة، لكن ولأن السادة دارسي الأدب والمتخصصين في علم اجتماع الأدب كسالى يتحركون ببطء الديناصورات لا ينهضون بواجبهم، ولا يقومون بتتبع ودرس هذه الأشكال من الكتابة الرائجة وتحولاتها، وسياقها التاريخي وظرفها الاجتماعي، ولماذا -مثلًا- عندما ظهرت (روايات مصرية للجيب) في منتصف الثمانينيات، حققت نجاحًا مدويًا، ولعبت دورا تاريخيا في غرس طقس القراءة في نفوس مئات الآلاف وربما الملايين من شباب العالم العربي، واستمر هذا الدور لما يزيد على عقد من الزمن ثم بدأ يفتر ويخفت تدريجيا مع ظهور أشكال وقوالب أخرى جديدة؟

كل هذه أسئلة تستدعي الدرس والبحث، والوقوف عندها، بدلا من الشِّجِارات، و«تقطيع الهدوم»، وافتعال المعارك تحت دعاوى «البيست سيللر»، وما شابهها. فقط أؤكد أنه ليست كل كتابة رائجة بالضرورة «تافهة» أو ينظر لها على أنها أقل في سلم القيمة الأدبية من الأعمال الأخرى التي تحظى باعتراف النقاد.. أبدًا.. (وللحديث بقية).