أفكار وآراء

العرب وإسبانيا.. حوار الإنسانية وجوار العقلانية

01 نوفمبر 2019
01 نوفمبر 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

في أوقات المحن والأزمات، وحين تبدو الآفاق مسدودة، والسماوات ملبدة بالسحب الداكنة السوداء، يحاول المرء الفرار من العاصفة القادمة من بعيد، فيتلمس لنفسه اقرب مرفأ، ومن بين أهم المرافئ المعروفة تاريخيا للذين يتعاطون مع التاريخ وأحواله، يجيئ مرفأ الماضي، لا سيما إذا كان ينتمي إلى عالم الأيام الجميلة والسنوات الرضية الهنية، تلك التي كانت فيها مساحات الاتفاق تفوق أحجام الافتراق، والحوار والجوار يغلبان رغبات التشارع والتنازع، الكراهية والخصام.

مؤلم حال عالمنا العربي في الوقت الراهن، من المحيط إلى الخليج، ولا نريد تقليب المواجع كما يقال، فالحال يغني عن السؤال والناظر لواقع الحال اليومي يجد عودة مكروهة لأعمال العنف، في عدد من بلدانه، بل ووصل الأمر إلى حد الاقتتال في بعض تلك الدول، وابشع من ذلك إلى حرق البعض، وما ابشع المشهد الحاضر.

يعن لنا أن نتساءل هل اخفق العرب في العيش الواحد بينهم وبين بعضهم، وهم أصحاب اللسان الواحد، والدين الواحد، والثقافة الواحدة، بعد أن عاشوا لقرون طويلة مع الأخر المغاير لهم دينا ولسانا وثقافة، وعلى أراض ليست عربية، قبل أزمنة بعيدة.

حين نعمد لتقليب صفحات التعايش الإنساني والإيماني بين العرب والإسبان في القرون الغابرة، نخلص إلى أن العرب امتلكوا ذات يوم مقدرة هائلة على التفاعل الخلاق مع الخلاف والاختلاف، واستطاعوا الوصول إلى صيغة تعايش رائعة أفرزت حضارة وتركت آثارا ذات مردود عال حتى اليوم، ومن هنا ينشأ العجب كل العجب، إذ كيف فعلوها في الماضي والآن هم غير قادرين على التألف والانسجام.

صدفة قدرية أو موضوعية تلك التي ساقت كتاب المستشرق البريطاني الأشهر «ستانلي لين بول» في طريق صاحب هذه السطور الأيام القليلة الماضية، والكتاب عنوانه «قصة العرب في إسبانيا»، ضمن سلسلة عصير الكتاب التي تصدر في القاهرة، والكتاب من ترجمة قديمة للشاعر والكاتب واللغوي المصري الراحل «علي الجارم».

شغف الناس في القديم والحديث بتاريخ العرب في الأندلس، ووجدوا في قراءته والاستماع لأحاديثه لذة روحانية عجيبة لا يجدونها في سواه، ولعل من أسباب هذا الشغف انهم يقرؤون فيه قصة رائعة للبشرية تتقلب فيها أحداث الزمان، وتصطخب صروف الأيام على حد تعبير الجارم، ويد أول الدهر فيها بين شطريه، فهو مرة صفاء لا يشوبه كدر، وابتسام لا تحوم حوله جهومة، وامن لا يخالطه حذر، وعز راسخ، وقوة، وسلطان، ونعيم، وملك كبير، وهو في أخرى هم، ونصب، وخذلان، وبلاء مستطير.

والشاهد أن قصة الأندلس عجيبة حقا، مثيرة للنفس حقا، فيها من أحاديث البطولة والإقدام ما يعجب له العجب، ويهتز له عطف العربي الكريم، فيها جرأة طارق، وإقدام عبد الرحمن الداخل، وعزيمة الناصر، وعبقرية المنصور، وفيها إلى جانب كل هذا أمثلة رائعة للصبر حين البأس، وللجلد على اشد المكروه، وللتمسك بالعقيدة والسيف معا فوق الرؤوس، وللثبات في مأزق يفر فيه الشجاع.

صفحات الكتاب، لا سيما مقدمة الجارم تنبهنا إلى ما نحن فيه اليوم من هوان وخذلان، ومن شقاق وفراق، ومن إحجام لا إقدام، ذاك الذي ضرب منطقتنا قبل نحو عقد تقريبا من الزمان، وذلك تحت عنوان مغشوش «الربيع العربي»، والذي نكاد نشتم في الآفاق رائحة لحرائقه من جديد، وكأن الهدف الاستراتيجي الذي كان وراءه، ولم يتحقق بعد، يسعى الآن ومن جديد صانعوه لإعادة فصوله مرة جديدة، اذ تبقى الأهداف الاستراتيجية واضحة في عيون واضعيها لا تتوه منهم، ولا تفلت من بين أياديهم، وان اخفقوا في الوصول إليها عبر الطرق المسلوكة، استطاعوا الالتفاف عليها عبر التضاريس.

قصة عرب الأندلس ككل قصص التاريخ في الماضي والحاضر، سيما وان شخوصه من البشر، كما تصور الرجولة التي تستهوي النفوس وتسحر العيون، ترسم إلى جانبها الفسولة والجبن، والحقد والأكاذيب، والشره في حطام الدنيا الزائل، وبيع النفوس للشهوات في اقبح ما يصوره المصورون.

تخبرنا صفحات ستانلي أن الأندلس في العصور الوسطى كانت شعلة النور ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وغيرها ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامة منزلة لم تكد تصل إليها أمة، واذا تحدثنا عن فنون العمارة، والهندسة والنقش وغيرها، طال بنا الكلام.

قصة الأندلس نعيد قراءة بعض من فصولها اليوم بهدف لا يغيب عن أعين القارئ اللبيب، فلا شيء صدفة في عالم الفكر، وربما نريد من الجميع أن يتنبه إلى درس الخلافات الداخلية التي تمزق الأمم والشعوب، وهذا ما فعلته في زمن الأندلس، ويخشى المرء أن يكون الحاضر رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للماضي الذي كان ذات مرة.

أخفقت الجوانح بحب الأندلسيين على الرغم مما يزعمه التاريخ من انهم اعطوا ملكا فلم يحسنوا سياسته، واستناموا إلى الشهوات، واستعان بعضهم على بعض بالإعداء، على انه يجدر بأهل الرأي ألا يتعجلوا في الحكم على أهل الأندلس وهم لم يعيشوا في بيئتهم، ولم يدرسوا أتم الدرس الأحوال التي مرت بهم، ولم يدققوا النظر في نظام الحكم الذي التزمته الأمم في هذه الأزمان.

عاش العرب في الأندلس وسط فتن ضاربة من حولهم نحو ثمانمائة عام، وعليه فانه قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها، ما يعني أننا أمام خلاف عميق مع ما قاله ابن خلدون مما يعتبره البعض تجني على العرب من انهم لا يصلحون لسياسة الأمم، وانهم أمة جهل وتدمير، وانهم إذا نزلوا بلدا اسرع إليه الخراب.

في حكايات عرب الأندلس الكثير جدا مما تتكلم عنه المؤسسات الأممية المعاصرة من تسامح وتصالح، ومن إيثار للآخر على الذات، ومن مقدرة على بناء المشترك الإنساني بقوة وحضور ووجود عميق، فسماحة العرب بالأندلس، وجمال مدينتهم، واتساع مدى ثقافتهم أسمى من أن يصل إليه إنكار منكر أو جحود جاحد، وان في أثار قرطبة وإشبيلية وغرناطة، التي لا تزال ماثلة إلى اليوم من معجزات البناء والهندسة، ما يخجل كل من يدعي أن أمة العرب أمة خراب وتدمير، وانهم يهدمون القصور ليتخذوا من أحجارها أثافي للقدور، ومن خشبها أوتادا للخيام، أين هذه الأثافي وأين تلك الخيام من جنات الأندلس الباسمات، وقصورها الشامخات؟

ثم أين هي من عظمة دمشق أيام الأمويين وجمال بغداد في حكم العباسيين، وازدهار القاهرة في عهد الفاطميين؟

من صفحات الكتاب يتبين لنا أن المستشرق الانجليزي ستانلي بول لين يحب العرب من كل قلبه ويتغنى بمجدهم، ويؤلف لأبناء امته في تاريخهم كتابا، أو قل قصيدة طويلة الذيول كلها ثناء وإطراء وحب وإعجاب وعطف وحنان ولوعة وبكاء.

أما طريقة بول لين في التأليف فجامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، ذلك انه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وأعجمية، ولقي ما لاقى في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث، استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب متماسكة الحلقات لها مع صدق حقائقها كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر.

يصف ستانلي حال العرب في الأندلس بالقول: «لقد كان ذوقهم العقلي والأدبي مرهفا دقيقا، وكان لهم ذلك الإحساس الذي لا يشعر به من نشأ نشأة سامية في العلم والأدب، وقد كانوا واسعي التصور خياليين شعريين مفكرين، يمنحون المال على مقطوعة شعرية رائعة ما يكفي للإنفاق على فرقة من الجنود، وكانوا ينظرون باحتقار إلى أقوى ملوكهم واشدهم بطشا إذا لم يكن شاعرا، أو لم يوهب له ذوق فهم الفكاهة الشعرية والبلاغة العربية، ومنح هؤلاء القوم البارعون استعدادا طبيعيا في الموسيقى، والخطابة، ودقائق العلوم، والنقد، وإدراك التوريات البعيدة التي نعدها اليوم من ميزات الأمة الفرنسية.

ما الذي جرى لتلك الأمة حتى تلقى ذلك المصير المؤلم قبل عدة مئات من السنين؟

الشاهد أن ضعف عرب الأندلس مرده الأول والأخطر هو الانقسام والتشظي الذي أصابهم، وفرقهم إلى ملوك للطوائف، ومن هنا بدا الفيروس القاتل الذي اسقط من قبل ممالك وأمم وامبراطوريات يسري في جسدهم، لا سيما بعد أن أضحت الرشى طريقهم لشراء الذمم والبشر والحجر على حد سواء، ولم يكونوا على قلب رجل واحد أو توجه بعينه يجمع الكل، فملوك الطوائف تاريخيا لم يكونوا حكاما مستقلين لأنهم وقعوا بين شقي رحا، من الخوف من الفونسو، ثم من الخوف مما هو اعظم خطرا من الفونسو، وهو تغلب حلفائهم المرابطين، ولكنهم في النهاية اضطروا إلى اللجوء إلى المرابطين.

ويظهر لنا في هذا الوقت تدخل الأعداء في اكثر شؤون عرب الأندلس السياسية، ونرى التحالف بين الفريقين مشتبك العرا، وان كثيرا من جنود الأعداء المرتزقة كانوا ينضمون إلى جيوش العرب في حروب مدمرة لولايات الأعداء، وان كثيرا من العرب كانوا يعينون جيوش الأعداء على إخوانهم من العرب والمسلمين.

هل يشابه الحاضر الماضي؟

علمنا كارل ماركس أن التاريخ لا يعيد نفسه، وانه إذا فعلها يضحى في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، غير أن كتاب التاريخ العربي في واقع الأمر ومن أسف شديد مليء بمثل تلك المآسي المؤلمة، وما الذي يحدث الآن إلا ضرب من ضروب التكرار القاتل للتاريخ، ولم يدرك العرب القاعدة الذهبية كل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت....

فانظر ماذا ترى؟