أفكار وآراء

التفاعل مع الصدمات

30 أكتوبر 2019
30 أكتوبر 2019

مصباح قطب -

تعودت الأجيال الأكبر سنا، سواء على مستوى وطن أو إقليم أو العالم، على الأزمات والصدمات الكبيرة، وتعاملت معها مستفيدة من ميراث طويل من الآليات والأدوات والطرق التي استنها السابقون عبر تاريخ للبشرية. التاريخ الإنساني بأكمله يكاد ان يكون صفحة ممتدة من النزاعات والتوترات والحروب والمعاناة والأزمات ، والفترات السليمة أو أوقات الازدهار تكاد تكون استثناء او مجرد هدنة او لحظة عبور بين أزمتين نادرة . وقد أدى اكتشاف او استشعار هول الدمار بعد إنتاج واستخدام القنبلة الذرية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية الى إعادة نظر دولية مسنودة من الأغلبية الساحقة من المواطنين في أساليب السياسة الدولية وطرق التنافس بين الدول وضرورة كبح أي جنوح الى الحرب والقتل والدمار ، وقد نجح ذلك الى حد ليس بالقليل ، في كل أقاليم العالم تقريبا ، ولا يكاد أن يكون استثناء إلا بعض المناطق في إقليم الشرق الأوسط وإفريقيا . تعرض النظام الدولي الناشب لامتحانات عسيرة وعبرها بدرجات من النجاح والخسائر، لكن ها هو يتعرض الآن لمحنة أو لما يقترب من أن يكون محنة إلا وهي الاحترابات الاقتصادية والتجارية والنقدية والمالية والعسكرية غير المباشرة بين الكبار وعلى مستويات أخرى . كبشر نشعر بوضوح وسرعة بأثر دمار وموت تحدثه قنبلة ذرية ، لكن لا نشعر بنفس القوة أو المقدار بأزمة اقتصادية قد تؤدي عمليا الى وقوع ضحايا بأشكال مختلفة يفوق عددهم ضحايا القنبلة . الموت الواسع في حال القنبلة قد يقابله موت مباشر أقل من حيث العدد في حال الأزمات الاقتصادية العنيفة ، لكن أن تموت بسرعة متأثرا ليست الخسارة الجسيمة الوحيدة في أعقاب انفجار الأزمات الاقتصادية الكبرى ، فثمة تخريب لحيوات وأنفس ومناخات ومنشآت وفرص عمل ورزق وعيش وطموح ... ثمة اكتئاب وانقهار وانهزام ونكد وألم صامت ومدوٍ وكمدٍ الى آخر ذلك مما يصعب قياس وحشيته ، لكن لمسها يسهل على أي عين او أي قلب او عقل بصير. في الوقت الراهن يغمرنا ، نحن من هم فوق الخمسين بصفة خاصة ، شعور بأن الأجيال الأصغر قد لا يكون لديها نفس القدرة على الاحتمال والمواجهة عند الصدمات المخيفة الاقتصادية او على ابتكار سبل تتقى بها ما هو مباغت ومؤذ وجهول ... اقصد على مستوى الأفراد أو الأسرة ، وهما مناط حديثنا الآن بعيدا عن آثار التغيرات على المستوى القومي . لا تفسير لدى لهذا الشعور ، ولا استطيع أن أدعي انه صحيح بشكل عام ، فما اكثر المرات التي نرى فيها من الشباب قدرة فائقة على التحدي والتصدي ، لكن كل ما استطيع ان أؤكده هو ان الصمود الشخصي في مواجهة أزمات اليوم قصير النفس عن صمود الأجيال السابقة ، وأن الأكبر سنا عاشوا حياة صعبة في عمومهم ، و كان استهلاكهم محدودا للسلع والخدمات ، ما جعل المصاعب تبدو لهم عادية نسبيا أو يمكن تخطيها او تجاوزها مهما كانت قسوتها ، وحكمهم في كثير من الأوقات منطق : (ليس لدينا الكثير لنخسره ) ، حيث لم يكن يسهل أن يصاب المرء باليأس نتيجة الشعور بالحرمان او نقص الإمكانيات أو الموارد بنفس السهولة التي يصاب بها الآن . وتختلف ردود الأفعال لدى الأسر والأفراد في كل دولة او منطقة في التعامل مع الصدمات بالتأكيد كما يتوقف نوع التعامل على عوامل كثيرة بعضها خارج سيطرة الأفراد والأسر، وفى كل الحالات فإن البحوث الاجتماعية مطالبة بقياس قدرة الفئات المختلفة على التعامل مع أزمات معيشية اقتصادية أو مالية كضياع الأجر او خسارة معظم الدخل ، أو اجتماعية كهجرة ، او فقد عائل او إصابة بعجز ، أو أزمة بيئية كإعصار أو جفاف أو سيول .. الخ . أقول ذلك ليس لأن العالم مهدد بأن يستقبل ركودا متعدد الأبعاد في الفترة المقبلة كما يتوقع كثيرون ، وبكل ما سيترتب على ذلك من تعطل مصالح وشركات ومصانع ومتاجر وأسواق.. الخ ، ولكن أيضا إدراكا بأن التوعية والتدريب على مواجهة الأزمات من هذا النوع قد تكون مفيدة الى درجة لا نتصورها . العبء الذي سيلقيه الركود على من يفقدون وظائفهم او جزءا من دخلهم او تغطياتهم التأمينية او الصحية في ظروف الأزمة مهلك لكن يمكن في النهاية الحد من آثاره بالوعي والمساعدة التثقيفية .وقد شاءت الظروف منذ أيام أن يتم في مصر إطلاق نتائج المسح التتبعي الرابع لسوق العمل في مصر، وهو المسح الذي يقيس ويعاين حال الأسرة المعيشية المبحوثة من الناحية الصحية والتعليمية والسكنية والتأمينية ، وحال الهجرة الداخلية او الخارجية فيها ، ومدى تحقق الأمان الغذائي من عدمه لأفرادها ، ووضع المرأة في سوق العمل ، وسن الزواج ومعدلات الإنجاب بالأسرة في علاقتهما بسوق العمل ... ، مما هو مطلوب أو معهود في مثل ذلك النوع من المسوح الكبيرة . لقد تم البدء في إجراء مسوح العمل بمصر انتظاميا منذ 1998 ، بالتعاون بين جهاز الإحصاء القومي ومنتدى البحوث الاقتصادية ، ويجرى المسح التتبعي عادة كل ست سنوات ، وفيه تتم مقارنة حال الأسرة المعيشية حاليا بما كانت عليه في أول مسح ، كما يتم بحث أحوال عدد من الأسر المشتقة او المتفرعة من الأسر الاصلية ، وكذلك يتم عادة إضافة أسر معيشية جديدة لأغراض تعميق الملاحظات الخاصة بأثر المتغيرات الاقتصادية على الأسر (اثر صدمة تحرير سعر الصرف مثلا) ، و إضافة أسر من أفقر القرى او من المناطق النائية وهكذا . غير أن ما أتوقف عنده اليوم هو أن فريق المسح الذي يشرف عليه عالم مصري بارز واستاذ في جامعة مينسوتا في الوقت نفسه هو الدكتور راجي اسعد ، اضاف الى استمارة الاستبيان أسئلة هدفها كشف وتوضيح الكيفية التي تتعامل بها الاسر المبحوثة مع الصدمات التي تحدث في سوق العمل مثل البطالة او عدم وجود عقود رسمية او غياب التغطية الصحية والتقاعدية ، او نقص الأجر بعامة او نقص الأجر الحقيقي مع ارتفاع التضخم او موت العامل او إصابته بعجز أو فصله من العمل أو الاستغناء عنه نتيجة الأزمة ، والى غير ذلك ، فضلا عن الصدمات الأخرى البيئية او الاجتماعية كما أشرت ، فما هي الخبرة المستقاة من تلك الإضافة ومن تحليل ما ورد فيها ومن المناقشات التي دارت حولها؟.

إن أول ما يلفت النظر وأظنه شائع عربيا عموما ( تم بمساعدة راجي أسعد ومنتدى البحوث عقد دورتين لمسح سوق العمل بالأردن وواحدة في تونس وهناك اتفاق لم ينفذ بعد على إجراء المسح الأول في السودان ..) ، أول ما يلفت هو ان الخطوة الأولى عند تراجع الدخل او فقدان وظيفة العائل هي تقليل الإنفاق على الطعام والشراب ، وهو أمر شديد القسوة لكن يحدث وبالتأكيد على نطاق ليس بالقليل ، ويضاعف من صعوبة هذا الإجراء هو ان الكثير من الأسر يشيع فيها التقزم والهزال أصلا لنقص التغذية الجيدة او سوء التغذية أي ان تقليل الإنفاق على الطعام سيؤدى الى مشاكل صحية عويصة تجعل من الصعب على الجيل المصاب بأمراض من نتيجتها ، تكوين وبناء اسرة سليمة ، بل إنه يورثها بكل يقين ما حمله من ضعف في الصحة والقدرة والفرص معا. يرتبط بما تقدم خفض الإنفاق بشكل واضح للغاية على الرعاية الصحية حتى للأطفال لتدبير ما يقيم الأود فقط وقت المحنة إذ له الأولوية الأولى.

وكانت الملاحظة الثانية لا تقل إثارة وهي ان الأسر المصابة بالصدمة تعتمد على مواصلة حياتها على الإعانات والمساعدات وربما التمويلات (القروض الحسنة) من الأهل والجيران والأقارب أو بعض الجهات الأهلية القريبة منهم ومن حالهم ، ولا يتم التعويل كثيرا على المساعدات الحكومية لان مثل تلك الأسر لا تعرف الطريق إليها ، أو لأن الإجراءات البيروقراطية معقدة ، أو لأن ما يمكن ان تقدمه الحكومات غير كاف في النهاية ، وعلى

الرغم من الجانب المحزن في تلك العملية إلا أنه يحمل قيمة لا بد ان نتوقف عندها وهى قوة التضامن في المجتمعات العربية والتي لا يمكن ان تجد مثيلا لها في معظم دول العالم ، ولهذا ليست صدفة انه رغم ان تأثير عمليات مثل تحرير سعر الصرف وتقليل الدعم وغير ذلك من خطوات برامج الإصلاح الاقتصادي المعتادة ، شديد السلبية على أكثرية المواطنين ، فإن الأمور قد تمضي بقدر من السلام أو بتوقعات قليلة للاضطرابات بسبب هذا الميل التضامني النابع من عاطفة دينية او إنسانية او اجتماعية ، بيد أنه لا يجب الرهان طوال الوقت على مثل هذا النوع من المساندات خاصة في حالات الاختناقات الاقتصادية الكبرى لأن من يريد ان يتضامن اجتماعيا قد يجد نفسه غير قادر رغم توافر نية المساندة ورغم الرغبة في إيثار الآخرين ، ومن هنا وجوب ان يكون للحكومات برامج طوارئ قوية ، تشمل من بين ما تشمل رعاية الأطفال والأمهات ، وأساسا سرعة توفير فرص عمل ودخل بديلة .

النتيجة الثالثة التي لا أظن أيضا أنها مفاجئة ، غير أننا ننساها فى كثير من الأحيان ، هي أن أغلب المصاعب والصدمات يقع عبؤها على المرأة ، والغريب انه تبين في حالات متعددة انه لو كانت هناك فرصة عمل يمكن توفيرها للأسرة فإن البيوت تميل تلقائيا الى تمريرها الى الرجل ، والغريب أيضا ان فرص المرأة في فرص العمل والعدالة داخل مؤسسات الأعمال وفى ريادة الأعمال اقل بكثير ، بسبب تعقيدات حكومية ومجتمعية وأسرية ، إلا ان البيت يميل عادة الى ان يسلم لها دفة القيادة عندما تتأزم الأمور مع كون أنها ليست لديها أدوات كافية ، أو لم يتم التفكير في تمكينها من ان تحوز أدوات كافية كما رأينا . الأصعب على النفس ان المرأة تضحي أول ما تضحي في هذه الحالة باحتياجاتها هي حتى من الغذاء قبل ان تضطر الى تقليل إنفاق الغذاء على أهل البيت كلهم ، ولهذا فإن المناقشات التي شارك فيها ممثلون من الوكالة الفرنسية والبنك الدولي وهيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب العمل الدولي ، أكدت على الأهمية البالغة لمساعدة المرأة على الوصول بشكل أفضل الى سوق العمل ، وتم عرض نماذج للترتيبات التي تقوم بها دول مثل المانيا او انجلتر او شمال اوروبا لتشجيع القطاع الخاص ، الذي يميل عادة الى عدم توظيف المرأة لتفادى تكلفة إجازات الوضع المدفوعة و أشهر الرضاعة الخ ، على تعيينها. لا يمكن في النهاية ان نقول ان جيلا افضل من جيل في التحمل ، ولا نتمنى ان تتعرض اسرنا او شبابنا لمواقف مشؤومة من هذا النوع ، بيد ان الحياة هي هكذا « يوم حلو ويوم مر» ، وعلى كل الأطراف من حكومات ومجتمع مدني وأفراد واسر وأهل وجيران وقطاع أعمال عام وخاص ، أن تتكاتف لتفويت الأيام العلقمية - حين تقع - على خير.

[email protected]