رندة_صادق
رندة_صادق
أعمدة

عطر .. الفراشات والضوء

30 أكتوبر 2019
30 أكتوبر 2019

رندة صادق -

الفراشات مخلوقات صغيرة ألوانها مبهجة، تثير الغبطة وتبعث الفرح والإيجابية في الروح، وللفراشات حكايات كثيرة ترتبط بالإنسان بداية مع الأطفال الذين تصيبهم الدهشة حين يرونها ترفرف بجناحيها الصغيرين الملونين بألوان وأشكال ملفتة تشدهم فيلاحقونها في الحقول والبساتين.

وللفراشات علاقة وثيقة بالجمال والطبيعة، هي ترتبط ارتباطا وثيقة بفصل الربيع حيث تكثر في الحقول وبين أنواع الزهور تراقص الألوان وتحتفل بنهوض الأرض من ثباتها، انه عرس الطبيعة، روعتها تكمن في الدهشة التي تثيرها، إنها خلاصة سحر الكون. هذه الكائنات الرقيقة على صغرها لها دور هام في التوازن البيئي وهي تتواجد في كل مكان باستثناء المناطق القطبية لأنها لا تتحمل الحرارة المنخفضة، وبحسب المراجع فان تعدد ألوان الفراشات يعود إلى إفرازها للعديد من الصبغات المختلفة، والتي تعطيها الألوان المميزة.

ارتبط اسم الفراشات بكثير من الأمور، فحين ترى امرأة رقيقة ناعمة رشيقة خفيفة الظل قوية الحضور ساحرة التفاصيل، تقول عنها أنها جميلة ورشيقة كالفراشة. وعندما ترى فستانا غارقا في زهوة الألوان تقول كألوان الفراشات، إنها رمز جمالي رقيق تجعلك تسبح الخالق سبحانه وتعالى فقد وضع الدهشة فيها.

وهذه الرمزية الجمالية تستمر وتتوالد في كل نموذج إنساني أو فني، كثيرا ما رسمها الأطفال على دفاترهم والعشاق في رسائلهم والعذارى في أحلامهن يعانقن الأمل وترقص من حولهن الفراشات، والرسامون في لوحاتهم، وكتب عنها الأدباء في نصوصهم، شغلت العالم بسر جمالها وتخطت المتوقع في تأثيرها حتى جمعها البعض وحولها إلى محنطات كهاوية تهتم بالأنواع النادرة منها والتي من الممكن أن تباع بمبالغ طائلة، فتجده يصنفها ويعرضها في المتاحف أو في أماكن خاصة أو يحتفظ بها ككنز ثمين يخبئه عن الجميع ولا يخرجه إلا لمن يثق بهم وهي من الهوايات النادرة.

ومع هذا للفراشات الجميلة علاقة غريبة بالضوء، ومن هنا جاءت لهذه الكائنات الفرحة وصمة حزن ورمزية اقتبسها الإنسان ليشير من خلالها إلى حالته. علماء الحشرات وعلماء البيئة يعتمدون الضوء كفخ يصطادون فيه الفراشات الغافلات المنجذبات إليه، كأنها لحظات تخلي وانتحار مقدر يسرن إليه بقرار فطري ينهي أعمارهن ويوقف دورة الحياة باستخدام الضوء مصيدة لهن الفراشات تتحرك باتجاه الضوء بحثا عن طريقها فيصيبها دوار التوهج وترقص رقصة النهاية الحزينة يتكرر المشهد وتتكرر النهايات.

هذا تمام ما يحدث أحيانا للأفراد أو للجماعات حين يجذبهن البريق وتذهلهم المغامرات فيلوح لهم من بعيد ضوء يناديهم يهرولون باتجاه وقد تخلوا عن وعيهم فيحترقون وهم يرقصون، إنها لا مبالاة بالموت ولا حسابات ترتب خسائرهم، لذا يشبه الإنسان أحيانا تلك الفراشات التي سارت راقصة تعانق الموت وليس هناك من بعد الموت سوى الرحمة. إنها طبيعة غافلة أم أنها نموذج للإنسان الذي قد لا يفكر بخطواته ولا يحسب انه يرسم نهايته بيده؟

إنها مقاربة غريبة أن تحمل الفراشة فلسفة الجمال وغفلة القرار، انه تناقض وجودي غريب لا يمكنك تجاهله ولا يمكنك أن ترى هذان المشهدان دون أن تتوقف لتقرأ الوجه الآخر للوجود ومعناه، وتتأمل كيف أن حياة هذا المخلوق الصغير له كل تلك المعاني الحياتية القوية والمعبرة المرتبطة بتفاصيل حياة الإنسان بشكل أو بآخر.

الفراشات رسائل حياة وشيفرة ليس من السهل فكها وحلها، أنها عملية معقدة لدورة حياة موازية ومليئة بالمقاربات، ومع هذا كلنا يرغب بالرقص كالفراشات وأحيانا بالموت احتراقا من اجل فكرة أو هدف وأحيانا كثيرة بلا معنى حقيقي غير العناد.