1352042
1352042
المنوعات

يوميات في القاهرة .. عـن المقاهـي وحكـاياتها وبحثا عن الماضي في سور الأزبكية

27 أكتوبر 2019
27 أكتوبر 2019

«٢» عــلى ضفاف النيــــل

عاصم الشيدي -

القاهرة مدينة ساحرة، ناضجة، تستطيع أن تشبكك في حبها سريعا فلا تستطيع لنفسك خلاصا بعد ذلك أبدا. ولا يمكن أن تنجح أي مقاربة بينها وبين أي مدن العالم أجمع مهما اجتهد المقارن وبذلك في البحث عن الأدلة والحجج. ولكن هذا يحتاج معرفة دقيقة بها، بشوارعها، وبمحطاتها وبأسواقها ومقاهيها. كما يعرف المحب تفاصيل محبوبه ليستطيع التقرب منه أكثر وأكثر. والقاهرة أحد أقدم المدن في العالم، والقدم دائما ميزة إيجابية، خاصة إذا ما كان فعل التراكم الحضاري حاضرا في المشهد.


كان مقهى الفيشاوي بين أول الأماكن التي قصدتها عندما زرت القاهرة أول مرة في صيف 2001، وكان محفزي لذلك ما قرأته في روايات نجيب محفوظ، دون أن أكون على علم بالتاريخ السياسي للكثير من مقاهي القاهرة أو حتى بتاريخها الأدبي، حيث كان الفيشاوي وغيره من المقاهي مكانا يلتقي فيه أهل الثقافة والفكر والسياسة، وعلى طاولاته تكتب البيانات السياسية وتدرس الأطروحات الفكرية والفلسفية التي تدير دفة الحراك السياسي منذ ثورة 1919.

عندما دخلت منطقة الحسين بتفرعاتها الأصغر في ذلك التاريخ المبكر من الوعي كنت أستعيد بعض تفاصيل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، في محاولة لمطابقة المكان الروائي على المكان الحقيقي. على سبيل المثال المشهد الذي كانت تنظر له أمينة زوجة أحمد عبد الجواد لزوجها وهو يخرج من البيت في طريقه للدكان، أو حمام السلطان، أو الصاغة، والغورية، والصناديقية وهي الأماكن التي رسمها نجيب محفوظ في روايته بدقة متناهية أو الطريق التي سارت فيه أمينة وهي ذاهبة لزيارة مقام السيدة زينب. كانت المقارنة تحتاج إلى شخص متخصص بالمكان أكثر من ضيف قرأ الرواية وجاء ليبحث عن تفاصيل فضائها المكاني في القاهرة القديمة دون أن تكون له معرفة عميقة بالمكان. ولا أعرف إن كانت هذه إيجابية أم سلبية ولكن يشغلني جدا البحث عن الأماكن الروائية ومحاولة مقارنتها أو مطابقتها مع الأماكن الحقيقية. قرأت مرة كتابا للروائي الراحل جمال الغيطاني عقد فيه مقارنات من هذا النوع وهو أحد أخبر الناس بالقاهرة القديمة كما أخبرني الصديق أحمد الفلاحي الذي عاش بعضا من حياته في القاهرة. ففي كتابه «ملامح القاهرة في 1000 عام» حاول أن يقرب الفضاء الخيالي من الفضاء الحقيقي في ثلاثية نجيب محفوظ بشكل خاص ووجد الكثير من الفروق، وهذا طبيعي في الأعمال الروائية ولكن من براعة الروائي أن يستطيع إيهام قرائه بتطابق المكان الروائي مع المكان الحقيقي، فإذا كان جمال الغيطاني وهو أحد حرافيش نجيب محفوظ وقع في الفخ نفسه وذهب يتحقق من تطابق الأماكن فكيف بي؟

لا أذكر تفاصيل أكثر من تلك الزيارة للحسين، ولكن في تلك المرة بحثت عن مقهى آخر ورد في ثلاثية نجيب محفوظ اسمه مقهى «سي عبده» كان كمال عبد الجواد يلتقي فيه صديقه فؤاد الحمزاوي، لم أظفر بالحصول عليها أو على مكانه الدقيق لكن أحد كبار السن أخبرني أن هذا المقهى لم يعد موجودا منذ سنوات طويلة جدا، وهو يعتقد أن مبانيَ حديثة أقيمت على أنقاضه. وربما هذا اجتهاد منه وأن المقهى غير موجود في الحقيقة وإنما صنعه نجيب محفوظ في فضائه الروائي.

أما هذه الليلة من سبتمبر 2019 التي أعود فيها للحسين فلا أبحث إلا عن مقهى الفيشاوي بعد عشاء لذيذ في مطعم نجيب محفوظ، وهنا ومع إبريق شاي أخضر يمكن أن نستعيد بعضا من تاريخ المكان وعظمته.

الحاج ضياء الفيشاوي صاحب المقهى يعرف كيف يقدر زواره، ويعرف الزوار الدائمين من الجدد، ولذلك يحرص على تحية الجميع والوقوف معهم في حوارات ولو مقتضبة، والحاج ضياء هو حفيد الحاج فهمي الفيشاوي الذي مات كمدا عندما قررت سلطات القاهرة إزالة المقهى من مكانه التاريخي لصالح توسعة المشهد الحسيني. مات الفيشاوي قبل أن تهدم المعدات أول طوبة من المقهى، وأجريت له مراسم تأبين شارك فيها العشرات من أدباء ومصر وفنانيها عام 1968. ورغم شكوى ضياء من ابتعاد الكتاب والمثقفين عن المقهى إلا أن المكان مزدحم جدا، وليس سهلا أن تجد طاولة تجلس إليها، لكن لا تكاد تتعرف على فنان أو مبدع أو روائي هنا، وجوه غريبة أغلبها غربية سمعت عن المقهى فجاءت تجلس على مقاعده وتشرب فنجان قهوة أو شاي وتشم رائحة من مروا بالمكان وارتبطوا به. وعندما تجلس إلى الفيشاوي فلن تجد فرصة للانشغال مع نفسك فعشرات المواكب تمر أمامك: بائع الفلّ، وبائع الكتب، وبائع ألعاب الأطفال، والطفلة بائعة المحارم الورقية، وبائع حقائب اليد النسائية المقلدة، والفتاة التي تنقش الحناء، وعشرات الأطفال المتسولين، والعرّافة قارئة الفنجان.. إلا أن أجمل المواكب على الإطلاق تلك التي تكون في المناسبات الدينية حيث يمر عليك موكب الدراويش وهم ينشدون ويغنون ويدورون حول أنفسهم فيما يشبه رقصة الخلاص.

يستطيع الفيشاوي أن يذكرك سريعا ببعض تاريخ المقهى ويحدثك عن غرفة بالفسور التي جلس فيها نابليون والقائد روميل وجان بول سارتر وسيمون دو بو فوار، أو الغرفة التي جلس فيها الرئيس بوتفليقة أو الرئيس علي عبدالله صالح أو جعفر النميري أو عمرو موسى الذي اصطحب معه وزراء الخارجية العرب. أو المكان الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم من فناني مصر و مثقفيها. لم يكن نصيبنا هذه الليلة أن نلتقي بأحد من العظماء الذين مروا على هذا المقهى ولذلك استعدنا مع الحاج ضياء بعض ذكرياتهم، وحده عازف الكمان عصام بخ الذي لم ينقطع لثلاثين عاما، كما يقول، عن السهر في هذا المقهى، يحاول أن يعيدنا إلى الزمن الذهبي للمقهى. ولكن عصام بخ وإن استطاع عزف بعض المقطوعات الموسيقية إلا أن صوته سيء جدا، ولذلك يأخذ وقتا طويلا ليقنع السياح للجلوس معهم وعزف بعض المقطوعات مقابل بعض المال، وما أن يستمع جيران الطاولة لمعزوفة جارهم وصوته إلا ويقطعون أي تفكير في طلبه للعزف. لكن حتى مع مثل هذا الصوت الذي لا يتناسب والأصوات العظيمة التي جلست على كراسي هذا المقهى يمكن للزائر أن يصنع ذكريات من شأنها أن تبقى وتكتب وربما تسرد في يوم من الأيام.

نترك الفيشاوي ونحن نسير في عمق القاهرة الفاطمية، أمام مساطب حوانيتها ومحلاتها التي تزدان بالبضائع المستوردة من الصين وكوريا وشرق آسيا، ونقف أمام محل يبيع كتبا ومجلات قديمة بعضها أصلي وبعضها الآخر مصور. هنا تجد أعدادا قديمة من جريدة الأهرام في عصرها الذهبي وأخبار اليوم والجمهورية. تقرأ عناوين عظيمة من مرحلة مضت عن تأميم قناة السويس وما تبعها من حرب أو عناوين عن نكسة حزيران أو عبور القناة. وفي المقابل هناك مجلتا المصور والهلال وفيهما ما فيهما من العناوين ومن حوارات مع شخصيات سياسية تذكرنا بأيام الصحافة الذهبية. لكن مع هذه العناوين الكبيرة والعظيمة هناك نسخ قديمة جدا من مجلة «الشبكة» وصور أغلفتها التي كان الشباب يطاردونها في سنوات مراهقتهم حين كانت مثل هذه الصور نادرة وممنوعة.


لم تعد القاهرة المدينة العظيمة التي عرفتها أول مرة زرتها، أو حتى في المرات الكثيرة اللاحقة ثمة الكثير يتغير هنا، حتى وجوه البشر لم تعد كما كانت. يقول بعض الأصدقاء أن المدينة حالها حال العالم تبحث عن مساحة التحديث ومواكبة مسير العالم نحو التكنولوجيا. أما أنت أيها الزائر «والمقصود أنا» تريد القاهرة كما تخيلتها، أو كما أحببتها قبل عقدين من الزمان أو كما قرأتها في الكتب، مدينة للتاريخ، ومتحفا مفتوحا تقرأ على صفحته حكايات الماضي.

لا أعرف إن كان ذلك صحيحا ولكن القاهرة تتغير بعد كل زيارة. لأربعة أيام أبحث عن كتاب في القاهرة فلا أجده، كتاب صدر في الأردن وأثار ضجيجا هناك، ووصل ضجيجه إلى الصحف المصرية لكن تذرع كل الأرصفة فلا تجده، تذهب إلى مدبولي فلا تجده ويقول لك العاملون في المكتبة أنهم لم يسمعوا به أبدا. لم تكن القاهرة هكذا، كان المقيم في القاهرة يقرأ إصدارات العالم قبل أن تقرأ في المدن التي صدرت فيها، ويقرأ صحف العالم قبل أن يكتمل شروق شمس المدن التي صدرت فيها، لكن المشهد لم يعد اليوم كذلك.

تبحث عن بسطة كتب في جادات الشوارع فلا تجد كما كان الأمر، تجلس في المساء تنتظر أن يمر عليك بائع الصحف المسائية فلا تظفر به.

تجتهد وتشتري بعض الصحف على أمل أن تجد ما تقرأ فأنت أمام صحف القاهرة فلا تجد ما يستحق القراءة أبدا، تفتح القنوات التلفزيونية فلا تجد أكثر من خطاب بائس وسطحي يدغدغ المشاعر ولكن لا يصل إلى العمق أبدا.


كان عليّ اليوم أن أزور سور الأزبكية بحثا عن قديم القاهرة من الكتب. فالأصدقاء يقولون إذا تعذر عليك كتاب فإن سور الأزبكية ملاذك الوحيد.

أدخل في وسط الأكشاك بحثا عن كتب نادرة، كتب، أحيانا، بإهداءات كتبت منذ عقود طويلة، أظفر ببعضها وادخل أكشاكا أخرى على أمل الحصول على المزيد، بعض الكتب تراكم فوقها تراب الزمن، وامتلأت بالحموضة. الغريب أن أصحاب هذه الأكشاك صاروا خبراء في الكتب رغم البساطة البادية على وجوههم، وبعض البؤس الذي يبدو عليهم. تسأله عن عنوان بعينه فيقول ليس لدي ولكن يمكن أن آتيك به من كشك آخر، يغيب عنك لخمس دقائق ويعود والكتاب في يده. الكتب هنا ليست غالية ولكن عندما تكون خليجيا فإن سعر البيع تضاف عليه ضريبة النفط الذي يصدر في بلادنا، وهي ضريبة قاسية جدا تزيد أحيانا عن 100% من سعر الكتاب الأصلي.

بعض هؤلاء دخلوا عالم التقنية وبدأوا يعرضون كتبهم ومقتنياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. في فترة من الفترات اشتريت نسخة من أول كتاب صدر للأستاذ محمد حسنين هيكل وهو «إيران فوق بركان» طبع هذا الكتاب الصغير عام 1951 في جريدة أخبار اليوم والكتاب عبارة عن تحقيقات كتبها الأستاذ هيكل عن ثورة مصدق. عرض الكتاب للبيع بـ25 ريالا عمانيا رغم أن ثمنه الحقيقي المكتوب على غلافه 10 قروش. في اللقاء الذي جمعني بالأستاذ هيكل حملت معي أول كتاب صدر له وآخر كتاب. بقي الأستاذ يطالع النسخة التي أحملها من «إيران فوق بركان» إلى أن حان الوقت وطلبت منه أن يوقع لي على الكتابين.

قال باستغراب من أين لك هذا الكتاب؟ قلت له اشتريته ولكن بأكثر من ألف ضعفه! فرد: المهم من أين حصلت عليه؟ أخبرته أنني اشتريته من صاحب كشك في الأزبكية صارت له منصة بيع على الإنترنت واشتريه منه نسختين بـ 50 ريالا عمانيا ما يعادل الآن حوالي 2500 جنيه مصري. ذهل الأستاذ وطلب من يوسف القعيد أن يسأل عن هذا البائع إن كانت لديه نسخ أخرى من الكتاب الذي لا يبدو أنه يملك نسخا منه. الغريب أنني اشتريت الأعمال الكاملة للأستاذ هيكل من مكتبة الشروق في وسط البلد بما يعادل 90 ريالا عمانيا فقط ولكن ليس بينها «إيران فوق بركان».

رحلة الأزبكية انتهت بزكام تطور إلى حمى استمرت أكثر من أسبوعين، وهذه ضريبة المكان ومحتوياته ولكن من يستطيع مقاومة وهج الكتب القديمة والنادرة حتى لو كان الثمن حمى تكسر العظام؟.


أعبر جسور القاهرة واحدا تلو الآخر وأنا أحدق في مياه النيل التي تجري منذ أزمنة سحيقة وأحاول أن أصيخ السمع لحكاياته التي يرويها لسماره، يتحدث عن عظمة المدينة وتاريخها وتاريخ الذين مروا عليها من الفاتحين العظام الذين تكسرت أطماعهم عند شط النهر، أو علت أحلامهم فوق كل الحدود. أستذكر الزعيم عبدالناصر، أحد عظماء مصر، وهو يحرك الملايين بخطاب واحد، أو يلوح بيده فتتحرك الجماهير العربية وكأنها بحر هادر، فيجاوب صداها في الهند أو قلب إفريقيا أو في يوغسلافيا ثم تفتح أبواب الاتحاد السوفياتي.

أتجاوز كل الشوارع في الطريق إلى المطار، وأنا متعلق بكل التفاصيل التي لا تنسى، وكل روائح التاريخ عالقة في أعماقي.. أغادر المدينة لكنها لا تغادرني.