أفكار وآراء

معركة شرق الفرات كما أرادها الكبار

26 أكتوبر 2019
26 أكتوبر 2019

د. عبدالعاطي محمد -

من معالم لعبة الأمم المعاصرة أنها وضعت المبادئ والأعراف الحميدة جانبا، وقرر أقطابها أن يديروا الصراع على المكشوف بلا أي أسرار. لم يعد هناك حرج من العمل بهذه الطريقة، بل على العكس أصبحت شكلا من أشكال استعراض القدرات على المبارزة. وفى هذا الإطار لم تعد هناك مفاجآت في المواقف كما كان الحال في الماضي، وإنما أصبح بالإمكان قراءة موقف طرف ما مسبقا مع قدر قليل في نسبة الدقة.

والمناسبة هي ما جرى خلال الفترة الماضية في شرق الفرات حيث المواجهة العسكرية بين القوات التركية وقوات أكراد سوريا «قسد»، والضغط الأمريكي الذي أسفر عن وقف لإطلاق النار هشا كان أو صلبا.

لم تكن هناك أية أسرار في تفعيل الحدث الكبير، حيث حددت تركيا علنا وفي وقت مبكر المكان والزمان والهدف، وفي حساباتها أن المعركة لن تمر بسهولة وستغضب الحلفاء والأصدقاء واستعدت للخطوة التالية. وقبل ذلك بأسابيع إن لم تكن بأيام قليلة كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد مهد لقرار سحب القوات الأمريكية من شرق الفرات وسوريا عموما مستندا في ذلك إلى أنه حقق النصر على تنظيم «داعش» الإرهابي وهو الهدف الذي ذهبت بمقتضاه القوات الأمريكية إلى هناك، وعليه لم يعد هناك مبررا لبقائها. وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تخوض حربا ضد الحكومة السورية كانت على علم بالموقف الأمريكي وحاولت في وقت مبكر أن تخفف من وقع المشكلة بأن قال مسؤولوها إن القوات الأمريكية ستعيد الانتشار لا أن تنسحب.

وقبل المعركة التي علم الجميع بموعدها وهدفها قبل أن تقع بوقت كاف، لم تنقطع خطوط الاتصال بين موسكو وأنقرة في مسألتين هما حصول تركيا على أسلحة روسية متطورة (صواريخ أس 400) على غير رغبة الولايات المتحدة، وإقامة منطقة آمنة على الحدود التركية السورية.

وعلى الجانب الآخر كانت العلاقات التركية الإيرانية في أحسن حالاتها برغم الخلاف السياسي الحاد القائم بين واشنطن وطهران. ولم تتوقف اللقاءات الثلاثية التي جمعت قيادات روسيا وتركيا وإيران. ومن السذاجة في أي تحليل سياسي القول بأن دمشق لم تكن على علم بما يجري بين الدول الثلاث وكذلك بالنسبة لما كانت تعد له تركيا بالهجوم على شرق الفرات (عملية نبع السلام)، فقطعا كانت موسكو تضع القيادة السورية في الصورة وتحصل على موافقتها أولا بأول.

تركيا كانت إذن على علم - وخلال مدى زمني كاف - بأن الولايات المتحدة لن تبقي على وجودها العسكري في شرق الفرات، وهذا يعني ببساطة أن حدودها ستصبح مفتوحة أمام نشاط قوات حماية الشعب الكردي التي تعتبرها أنقرة الذراع المسلح لتنظيم إرهابي وفى مقدمة هذه القوات تأتى قوات «قسد» التي تمثل الأكراد السوريين.

ومن المؤكد أن الرئيس ترامب أعطى ضمانات لتركيا بأن انسحاب القوات الأمريكية لن يوقع ضررا أمنيا عليها، فهي في نهاية المطاف دولة حليفة لواشنطن بما أنها عضو في الناتو وبها قواعد أمريكية وغربية، فضلا عن أن واشنطن تنظر لقوات حماية الشعب الكردي على أنها تمثل منظمة إرهابية. ما كشفته الأحداث بعد شن الهجوم التركي يؤكد ذلك. فمع تصاعد اللوم الموجه للرئيس الأمريكي بأنه تخلى عن قوات «قسد» التي قاتلت «داعش» وقامت الولايات المتحدة بتدريب أفرادها وتزويدهم بأسلحة أمريكية متقدمة، وكذلك الرفض الدولي واسع النطاق للعملية التركية، اضطر الرئيس الأمريكي إلى نشر رسالة كان قد بعث بها إلى الرئيس التركي أردوغان قبل شن الحرب بعدة أيام يحثه فيها بألا يتورط في عملية سيترتب عليها وقوع العديد من الضحايا المدنيين، وأن يكون حكيما (ذكرت الرسالة تعبير غير مهذب يسيء للرئيس التركي حال تنفيذ مخططه)، والأهم أن الرسالة تضمنت أن ترامب يرفق معها رسالة أخرى (رفض نشرها) تتضمن استعداد قيادة قوات سوريا الديمقراطية لتقديم تنازلات. ولم يكتف ترامب بنشر هذه الرسالة حتى يبرئ ساحته، وإنما قرر فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، ثم إيفاد نائبه بنس ووزير خارجيته بومبيو إلى أنقره حيث التقيا مع الرئيس التركي، وخرج اللقاء بقرار تركي بوقف إطلاق النار!.

وسط كل هذه التطورات الساخنة تعددت التساؤلات عن ملابسات العملية التركية وجدواها والنتائج المترتبة عليها، هل أعطت واشنطن الضوء الأخضر حقا لتركيا، أم أن الأخيرة كانت لها حساباتها المستقلة؟

وهل كانت خطوات الضغط التي قامت بها واشنطن مقصودة وأنقرة على دراية بما ستنتهي إليه؟

ولماذا لم يهتم ترامب بالأسئلة التي وجهت إليه مضمونها أن ما جرى في شرق الفرات سيصب في مصلحة روسيا، ورد بخصوصها بأنه إذا أرادت موسكو أن تكون هناك فلتفعل ذلك!

ولماذا تراجع الرئيس التركي أمام الموقف الأمريكي العقابي والعنيف، حيث قبل سريعا بأن يلتقي بالوفد الأمريكي بعد أن كان قد صرح بأنه لا يلتقي إلا بالرئيس الأمريكي فقط، ووافق على مطلب الوفد بوقف العملية في جلسة واحدة (تقرر فيها أيضا تعليق العقوبات الاقتصادية)، وأخيرا لماذا كان الروس حاسمين في التأكيد على أنهم لن يسمحوا بحرب تقع بين دمشق وأنقرة، وبدلا من ذلك تأكيداتهم بأنهم يرتبون للتنسيق بين الطرفين، كما يرعيان التقارب المفاجئ بين الحكومة السورية وقوات «قسد».

كلها أسئلة وتعليقات ملأت العالم ضجيجا على مدى بضعة أيام من بداية العملية إلى إعلان التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ولكن بقدر قليل من التأمل لا تبدو هذه الأسئلة عصية على الإجابة أو أنها تثير أمورا بالغة الغموض، بل على العكس تتضمن في جوهرها إجابات شافية وواضحة وضوح الشمس، وما كل ما يمكن وصفه بالجدل والمناكفات السياسية بين الكبار إلا من باب جني المزيد من الأرباح.

الولايات المتحدة لا تريد أن تقع في مستنقع الشرق الأوسط بعد تجارب مريرة سابقة، ومنذ تولي ترامب الحكم وهو عازم على ألا يكرر تجربة التورط في العراق، وكان قد وعد ناخبيه بأنه سيسحب القوات الأمريكية من سوريا وأكد في أكثر من مناسبة أنه لا يريد لقواته أن تستمر في حرب لا نهاية لها (يقصد الحالة السورية). وبما أنه مقبل على انتخابات جديدة يريد أن يكسبها، فإنه وجد في ورقة الخروج من سوريا سندا يحسن فرصه للفوز. أما قوات «قسد» فقد أعادت انتشارها في الجنوب تحت الحماية الجوية من القوات الأمريكية التي لا تزال تتحكم في الأجواء. وروسيا من جانبها زادت من دورها العسكري في الشرق السوري الذي عادت إليه قوات الجيش السوري بعد خمس سنوات من الغياب، وذلك من خلال دوريات الحراسة المشتركة التي تقوم بها قوات روسية بجانب قوات الحكومة السورية، وأنقرة لا تعترض على الوجود الروسي بالقرب من حدودها بالنظر إلى التنسيق العسكري القائم بين الجانبين منذ فترة ليست بالقصيرة، وتسعى للاستفادة من العملية التركية في التقريب بين أنقرة ودمشق (تقوم بدور الوساطة بين قوات «قسد» والقوات السورية) أي أن روسيا تعود لتكسب الشرق بعد أن كسبت الغرب السوري. وأما بالنسبة للجانب التركي فقد استطاع أن يجعل المنطقة الآمنة أمرا واقعا بعد أن كانت موضع جدل ونقاشات طويلة بين القوى الكبرى النافذة في الأزمة السورية، وبعد أن وضعت أقدامها تستطيع أن تنتقل إلى الخطوة التالية وهى إعادة تشكيل التركيبة السكانية في المدن الحدودية، وفى هذا الإطار من الوارد أن تطرح إعادة جزء كبير من اللاجئين السوريين لتتخلص من أعبائهم. وطالما أن هذه التطورات تصب في مصلحة استمرار الحكومة السورية فإنها تلقى تأييد إيران وإن لم تفصح عن ذلك صراحة.

جني الأرباح لا يعني أن الأطراف الكبرى لن تواجه خسائر، بل الصحيح أن هناك ثمنا لابد أن يدفعه كل طرف فما حدث ليس لعبة صفرية أي يكسب فيها طرف ما كل شيء ويخسر الآخر كل شيء. ولعل تحمل الخسائر مقابل جني المزيد من الأرباح هو أيضا من معالم لعبة الأمم المعاصرة، حيث المجازفة والمخاطرة مقابل ألا يتفرد طرف بتحقيق الانتصار فقط وإنما بأن يدفع ثمنا. وهكذا تصرف الرئيس التركي الذي أصر على خوض العملية برغم علمه بوقت كاف بعدم رضا الولايات المتحدة عنها لقد حقق بعضا من خطته وليست كلها وأبقى في نفس الوقت على علاقاته مع الولايات المتحدة، ولكنه يواجه تحديا مستقبليا بالنسبة للحفاظ على وقف إطلاق النار وترتيبات المنطقة الآمنة. لن يقرر مصيرها وحده بل بموافقة الآخرين وهنا لابد من ثمن يتعين دفعه!. ومن جهة أخرى فإن الكبار جميعهم يواجهون عودة «داعش» بعد أن خرجت قوات «قسد» من المشهد، ومن جهة ثالثة فإن المعاناة الإنسانية سواء في الشرق أو الغرب من الشمال السوري تفرض نفسها كورقة أساسية في أية مفاوضات مستقبلية لوضع نهاية للمأساة السورية.