56544
56544
المنوعات

مرفأ قراءة: «الأمير الصـغـيـر».. ما زال صـغيـرًا!

25 أكتوبر 2019
25 أكتوبر 2019

إيــهــاب المــــلاح -

-1-

«نحن لا نرى إلا بواسطة القلوب، وجوهر الأشياء لا تراه العيون».

(أنطوان دو سانت إكزوبيري مؤلف رواية «الأمير الصغير»)

«معجزتُك في قلبِك‏..‏ اصغِ إلى قلبك وحده‏..‏ هو الذي يدلك».

(توفيق الحكيم؛ «مسرحية إيزيس»)

-2-

قليلةٌ هي في العالم تلك القصص التي عرفت هذا الانتشار الواسع الذي حققته رواية «الأمير الصغير» للكاتب الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت اكزوبيري (1900-1944)، الذي يحتفل العالم هذا العام بالذكرى الـ75 لرحيله. ولم تفوِّت (دار الكرمة) بالقاهرة هذه المناسبة، فأصدرت ترجمة جديدة من روايته ذائعة الصيت والشهرة والانتشار، «الأمير الصغير»، بتوقيع الكاتب الكبير محمد سلماوي.

يقول بيان الطبعة العربية الجديدة إنها «ترجمة حديثة تتسم بالسلاسة والأمانة، يتلافى فيها المترجم الكبير عيوبَ الترجمات السابقة. كما تتميز طبعة الكرمة باحتوائها على الرسوم الملونة الأصلية للمؤلف، وقد جاءت طباعتها بالقطع الأصلي الذي صدرت به لأول مرة عام 1943». و(دار الكرمة) من الدور التي تعتني اعتناءً كبيرًا بكلاسيكيات وروائع الأعمال العالمية، وخصصت واحدة من سلاسلها الممتازة (ترجمات الكرمة) لإخراج هذه الكنوز في طبعاتٍ أنيقة مدققة، وفق أحدث وأفخم ما وصلت إليه صناعة النشر، ليس في مصر فقط بل في الشرق الأوسط كله. وقد سبق لـ (الكرمة) إخراج رواية «أرض البشر» للمؤلف الفرنسي ذاته، قبل حوالي عامين.

-3-

رواية «الأمير الصغير»، واحدة من روائع الأدب العالمي، وكلاسيكياته المشهورة، تُرجمت إلى كل لغات الدنيا تقريبًا (حوالي 300 لغة ولهجة محلية)، طبع منها ملايين النسخ (يباع منها نحو مليوني نسخة سنويًا)، تحولت إلى أفلام ومسرحيات، وأفلام تحريك، واستلهم منها رسومات وألحان وتكوينات فنية وبصرية.. إلخ، وما زالت حتى اللحظة تمثل زادًا ملهمًا لكل صناع الفن والإبداع، رغم مرور 73 سنة تقريبًا على ظهور «الأمير الصغير».

هذا النص القصير الفاتن، المدهش والغامض، في آن، كتبه في خلسةٍ من الزمن الطيار الفرنسي، والفنان متعدد المواهب، أنطوان دو سانت أكزوبيري، الذي انتهت حياته على الأرض في واقعة عبثية مدهشة(مات بحادث سقوط طائرته)، وهو صاحب روايتي «أرض البشر» و«القلعة» اللتين حازتا شهرة واسعة وترجمتا إلى أغلب لغات العالم وإن لم تصلا إلى تخوم الشهرة التي حققتها «الأمير الصغير». حكاية «الأمير الصغير» حكاية في منتهى البساطة، طيار تتعطل طائرته، فيسقط بها في الليل وسط الصحراء، وفي الصباح يستيقظ فيرى أمامه طفلًا جميلًا يقول له: «من فضلك، ارْسم لي حَمَلًا!». وبعد الإفاقة من هول المفاجأة، يُدرك الطيار أنه عندما يصعب فهم الأحداث، فما من خيار إلا الخضوع للحياة وألغازها، فيُخرج من جيبه ورقة وقلمًا.. وهكذا تبدأ هذه الحكاية التي خَلَبت الألباب على مر السنين لتأكيدها بأسلوب بسيط على الجوانب المهمة التي تعطي للحياة معناها. حكاية شعرية فريدة، بسيطة بساطة البراءة الأولى والدهشة الأولية، كأنها قادمة من أزمنة الأساطير السحيقة في الوعي الإنساني، بما يعيد الاعتبار إلى البديهي والأوّلي والجوهري، إلى الطفولي والطبيعي لدى إنسان العصر الحديث المسحوق، تحت وطأة التفاصيل الهامشية العابرة.

-4-

عبر سنوات عمري، الذي تجاوز الأربعين، قرأت «الأمير الصغير» في ترجمات متعددة، مصرية ولبنانية ومغربية، ولم أكن معنيا آنذاك بعقد أي مقارنة بين هذه الترجمات، خصوصًا أنني وفي كل مرة أعاود فيها قراءة النص أفتتن بعالمه وتأخذني روعته وأتماهى مع عوالمه المتخيلة فأنسى الدنيا وما فيها! وإن كنت أحببت ترجمة حمادة إبراهيم الصادرة عن دار المعارف المصرية قبل سنوات طويلة للغاية! وكذلك الترجمة التي أنجزها عاطف عبد المجيد وصدرت عن سلسلة (الروائع المائة) في آفاق عالمية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر قبل أربعة أعوام. بالتأكيد جزء كبير من هذه الحالة يعود إلى طبيعة الرواية ذاتها مهما تعددت ترجماتها وتفاوتت أساليبُ نقلها إلى العربية. لكن أيضا ما يميز الترجمة الأخيرة التي أنجزها القدير محمد سلماوي عن كلِّ ما قرأت سابقًا هو السلاسة التي لا تضحي أبدًا بالمغزى وبالقيمة التي تمثل جوهر الرواية ولب الحكاية.

حينما تقرأ الترجمة العربية الأحدث، ولا تكاد تشعر بأنك تقرأ ترجمة فهذا نجاحٌ مبين! حينما يستعيد الراوي ذاكرة طفولته، ويتخيل ما يوهم أنه حقيقة فلا يهمك سوى متابعة ما يجري أمام ناظريك في قلب الصحراء، وتتجلى المتعة، كأنصع ما يكون من خلال تنوع السرد والموضوعات والمحاورات..

من خلال وصف رحلات الأمير الصغير، فيما بين الكواكب والشخصيات والحيوانات؛ وهي متعة تتراوح ما بين خيال المتحابين والأصدقاء والعلماء والسكارى والمدمنين والملوك والمخلصين، المنضبطين في ذواتهم، وكذلك تتضمن الرواية تلميحات في ثناياها على مستوى صوفي رمزي، عن مسألة التواصل الوجداني، والتمييز ما بين جوهر الحياة وظاهرها، والتلميح لعالم الموتى وصلتهم بعالم الأحياء.

-5-

احتفظ النص، في ترجمته الجديدة، بأبرز ملامح الرحلة ذات الأبعاد الرمزية، والتي يقوم ببطولتها طيّار سقطت طائرته في الصحراء الكبرى، وهذا الأمير الصغير البريء، القادم من كوكب صغير لا يُرى إلا بالقلب. في «الأمير الصغير» لدينا رحلتان في الحقيقة:

رحلة الأمير الصغير ومشاهداته في ستة كواكب صغيرة للغاية، قبل أن يصل إلى الأرض، ورحلة الأمير الصغير على كوكب الأرض، ومشاهداته قبل لقاء الطيّار. يجوب «الأمير الصغير» بين الكواكب مكتشفًا عوالم جديدة، وشخصيات جديدة: الملك الذي يبحث عن السلطة، رجل الأعمال الذي يبحث عن المال، عالم الجغرافيا الذي يبحث عن المعرفة، ومنير الشموع الذي يبحث عن العمل المتقن.. يتحرك كل هؤلاء ناسين وجود الآخر في تنوعه وثرائه واختلافه، وهل من معنى للحياة من دون هذا الاختلاف!

وخلال تلك الرحلة الخيالية المذهلة، تشهد البراءة الطفولية الخالصة على حماقة الكبار، والأمير الصغير الذي خذلته وردته الجميلة المتعالية، لم ينسها أبدًا، وكان أول ما طلبه من الطيار التائه في الصحراء أن يرسم له خروفًا، يعود به إلى الكوكب، يأكل الأشجار الضارة حول الوردة، من دون أن يأكل الوردة.

لن يغادر الأمير الأرض إلا بعد أن يهتدي هو والطيار إلى بئر في الصحراء، بالصبر يمكن أن تجد، دائمًا يوجد الأمل، ولكنك ما لم تبحث، ولم تؤمن بقلبك، لن يتغير العالم إلا بأن يتغير البشر، بأن يعودوا إلى الفطرة والبراءة وإلى الخيال، هنا فقط يمكن أن يتسع الكوكب للجميع، وليس لفردٍ واحدٍ أحمق أو مغرور، كل فرد مسؤول عن الوردة التي أحبها، والأمير الصغير في داخل كل شخص وليس في خارجه أو في الصحراء، ابحث عنه.. تجده.

إنها نظرة رومنطيقية تتحدى شراسة الواقع.

إذن، فالرسالة بسيطة، فتش بداخلك، قلبك هو الكنز، استيعابك للعالم بقلب محب ومندهش هو السعادة، هو الحياة، هذا هو درس الأمير الصغير للطيار التائه في الفضاء والصحراء، شربة ماء في جوف الصحراء تعني أنك حي، الحياة الحقيقية هي التي يراها الصغار بعيونهم؛ البراءة والاكتشاف ولذة الاندهاش، الكبار يفسدون الأمور، دائمًا ما يفسدونها.