1349973
1349973
المنوعات

« أين أنتِ؟» لـ «سانتياجو جامبوا» .. قصة حب غير عادية عن البراءة والآثام

25 أكتوبر 2019
25 أكتوبر 2019

الشربيني عاشور -

ما إن تبحر في قراءة رواية «أين أنتِ؟» للكاتب الكولومبي «سانتياجو جامبوا» حتى تدرك أن تشجيع مواطنه الأشهر «جابرييل جارسيا ماركيز» له على الكتابة لم يصدر عن فراغٍ أو مجاملةٍ كتلك التي توزع كالسَعُوط في عوالمَ أدبيةٍ أخرى على أناسٍ ينتهون إلى لا شيء، كما ينتمون إلى اللاشيء ذاته، وإن تراكمت كتبهم على أرفف المكتبات، وعطسوا كل ستة أشهرٍ رواية!

لقد وضع ماركيز بنظرة فاحصة وضمير كاتب يده على ما يملكه سانتياجو من قدراتٍ كتابية، أهلته لأن يصبح واحدًا من أبرز الأصوات المبدعة في الرواية الكولومبية الجديدة كما هو معروفٌ عنه الآن. ومع توغلك في صفحات الرواية ستدرك أنك أمام كاتبٍ يعرف ـ بالفعل ـ من أين تؤكل كتف الكتابة الروائية!

هل يصبح من المفيد بعد ذلك أن نعرف أن الشاعر والروائي الإسباني «مانويل فاسكويز مونتالبان» اعتبر جامبوا إلى جانب ماركيز «أهم كاتبين كولومبيين»؟ ربما. غير أن ذلك لن يمنعنا من أن نحدث أنفسنا قائلين: يا له من شرفٍ عظيم أن يقترن اسم سانتياجو باسم مُعلم مثل ماركيز، وإن اختلفت بينهما طرائق الكتابة. تصور الرواية الصادرة بترجمة «سيد عمر» عن دار العربي للنشر والتوزيع في القاهرة قصة حب كما يصرح «مانويل» أحد أبطال الرواية وهو يروي قصته للقنصل: «دعني أخبرك شيئًا قد يفاجئك، لن تكون هذه قصة جريمة، بل قصة حب». إنها بالفعل قصة حب، وقصة حبٍ عادية إذا تم تجريدها أو اختزالها في حدود التيمة الأدبية المتكررة في قصص الحب. وباعتراف «سانتياجو جامبوا» نفسه في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معه، هي «قصة حب مألوفة بين اثنين يريدان العيش معًا في سلام وتعترضهما العقبات». ولكن ما لن يجعلها مألوفةً تمامًا، هو التحول التي أجراه الكاتب في عناصر القصة ودوافعها. إذ لا يتعلق الحب هنا بأية دوافع جسدية أو شهوانية. إنه يتعلق فقط بكراهية العيش في واقع الشخصيتين بما فيه من قبحٍ وفساد، بالرغبة في العيش في مكان مختلف، بالحرية في إيجاد مفهوم آخر للحياة، بالهرب من الآني نحو مستقبل يستمد وجوده من قيم روحية أساسها الأدب والفلسفة. كذلك فإن بطلي القصة هما أخ وأخته: «مانويل» طالب الفلسفة ورسام الجرافيت الخجول المنعزل والمختنق بواقعه، والذي يجد نفسه في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام. و»جوانا» التي تتعهد برعاية أخيها، وتخطط للهرب به إلى العالم الذي يحلمان بالعيش فيه معًا، بعيدًا عن عالم الطبقة المتوسطة الدنيا في كولومبيا أثناء حكم «الفارو أوريبي» حيث أصبح الحديث عن حقوق الإنسان خيانة، وحيث يحاصَر أبواهما بالفقر والوهم وانحناء الرأس، والعيش على الهامش ككائناتٍ عديمة الجدوى. تدرك جوانا أن تحقيق هدفها يحتاج إلى المال فتسعى لجمعه، في البداية بمساعدة زميلاتها بالمدرسة الثانوية في كتابة واجباتهن، إلا أن ذلك لا يستمر بدخولها للجامعة، وسرعان ما تنزلق خطاها إلى عالم الدعارة والمخدرات، وهو العالم الذي سيؤدي إلى شتاتها واختفائها، كما سينتهي بفاجعة «مانويل». تنسجم شخصيتا مانويل وجوانا مع رؤية «سانتياجو جامبوا» للكتابة الروائية، وهي الرؤية التي يلخصها في «العثور على الشخصيات الغريبة التي لا تعيش حياةً طبيعيةً أو مريحةً». فهذه الشخصيات ـ من وجهة نظره ـ بوسعها أن تساعده ككاتب على «فهم الحياة بشكل أفضل». وهو ما نستطيع تلمسه في الرواية التي تتدفق أحداثها عبر أزمنة وأمكنة مختلفة، حيث تدور وقائعها بين كولومبيا والهند وتايلاند واليابان وإيران محملةً بانطباعات وملامح مميزة لهذه الأماكن، ينقلها السارد الرئيسي في الرواية وهو «القنصل الكولومبي في الهند» الذي يجد نفسه واقعًا في مهمة انتشال «مانويل» القابع في بأحد السجون في بانكوك منتظرًا الحكم بالإعدام، وفي الوقت نفسه العثور على «جوانا» المختفية منذ سنوات. إنها مهمة شاقة لن يتنصل منها القنصل بحكم عمله أولًا، ومن ثم بفضوله ككاتب يسعى إلى إزاحة غموض القصة ومتابعتها أحداثها إلى النهاية.

ومع تعدد أصوات الساردين في الرواية ما بين «القنصل» و «مانويل» و»جوانا»، والتزام تقنية الراوي المتكلم، والنقلات الحادة الفجائية في السرد، والحوارات الفلسفية والأدبية التي ينثرها الكاتب بين الشخصيات، يتوضح وعي الشخصيات العميق بمأساوية الواقع، وفهمها للتناقض بين المتعة والعذاب، وبين البراءة والآثام. كما يتكشف لنا غرام الكاتب نفسه بإعادة كتابة الكتب التي أثرت فيه ضمن أعماله، وهو ما صرح به أيضًا في أحاديثه الصحفية، وما نجده في توظيف بعض المقاطع والمقولات على ألسنة شخصياته.

في «أين أنتِ؟» وعنوانها الأصلي «صلوات ليلية» يظلل التشويق ـ باعتباره مكونًا أساسيًا للروح السردية في قصص البحث والجريمة ـ أحداثَ الرواية بما لا يدع القارئ مسترخيًا، وهو يتابع تطور الأحداث وتلاحقها في تلك العوالم الخفية لتجارة الجنس والمخدرات، وما يتعلق بها من فساد مؤسسي، وانتهاكات بشرية، على الرغم من الفواصل أو المقاطع «المنولوجية» التي تضمنتها الرواية، وما حملته من روح شاعرية تتقاطع مع الكتابة السردية المحايدة. إنها رواية رائعة في هجائها للفساد، وتشريحها للمدن المعتمة الكريهة التي «تظهر لنا المتعة عندما تكون في الواقع عذابًا». وهو ما ينبغي أن يحفزنا على الاتجاه نحو حياةٍ أفضل، وعوالم أكثر إشراقًا ونقاء.