Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ: آآآسف ..

22 أكتوبر 2019
22 أكتوبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

أصبح في حكم المعتاد، أن يتصل بك فلان من الناس، ليقول لك «آسف» لتأخري عن الحضور، بعد أن جندت نفسك لأن تستقبله لأمر ما، وكما هو الحال عندما يعتذر لك آخر عن خدمة وعدك بإنجازها لأنه انشغل في أمر ما، وتأتي أعذار من ثالث، ورابع، وخامس، قد يبدي لك البعض أسبابا منطقية، وقد يفتعل لك آخرون أسبابا واهية، وعليك في كل هذه الحالات أن تكظم غيظك، وتحرقك مشاعرك، وتنظر إلى نفسك بشيء من السخط، وربما البلاهة أحيانا.

يمثل خلق الاعتذار قيمة إنسانية كبيرة، وكذلك قيمة اجتماعية أكبر، وذلك لأنها تصل بالمتضادين في لحظة شعورهما الـ«محموم» إلى حالة من الرضا النسبي، كما يتوقع، حيث «عفا الله عما سلف» على الرغم من مرارة الهزيمة التي تنتاب الذي أقدم على العفو، حتى وإن بدا للآخرين من حوله باسما، فـ«الطير يرقص مذبوحا من الألم» لأن كل هذه الصورة المتجمعة في لحظتها عبارة عن مشاعر متبادلة بين الكره والرضا، ومن هنا يأتي التكريم، والتثمين، للعافين عن الناس، لأن هؤلاء العافين عن الناس يتحملون شعورا غير عادي مضاد لما هي الحقيقة الإنسانية التي عليها البشر، وأتصور من هنا تأتي فلسفة القصاص، وذلك لتهدئة هذه النفوس الثائرة للحصول على حقوقها التي انتهكها الطرف الآخر، «بدم بارد» كما يقال.

فالجروح الغائرة لن تندمل إلا بالقصاص، وهذا ما تؤكده الشريعة والقانون، وبالتالي من يتسامى في خلقه ومشاعره على التنازل عن القصاص، يكون حقا حالة إنسانية مثالية، وتستحق الإشادة والتقدير، لأنها ستعايش من أساء في حقها طوال سني حياتها، في وسط المجتمع الذي تعيش فيه، وفقًا لثقل الإساءة، وكلما تصافحت الأعين بين الطرفين كان العافي أكثر إيلاما من صاحبه، فالجرح عميق، ولكن لأنه تعاقد مع المجتمع من حوله على الصفح والغفران، لن يكون أمامه سبيلا لـ«خط رجعه» فالعقد الاجتماعي، هنا، يلزمه بملازمة ما عقدت نفسه عليه في موقف التصالح، فهنيئًا لهذه الأنفس التي تتسامى على تجاذباتها الخاصة، فوق ما تحتمل.

وكلمة «آسف» كما جاءت في العنوان، ليس يسيرا استيعابها، وسط هذا المعترك الشعوري القلق والمتضارب في آن واحد، ولذلك، كثيرا ما نسمع قول أحدهما في لحظ انفجار هذا الشعور «من أين أصرف كلمة آسف هذه» وهذه ردة فعل قوية ومتوقعة، من طرف من أحس بالإساءة، أو بالغبن، في موقف هو أحوج إلى الانتصار لذاته المراق دمها على الرصيف، وبالتالي فمن يأتيك - وبكل برود - ليقول لك «آسف» بعد الإساءة عليك بأحد الردين، الأول: أن تعطيه كفا، يعيده إلى مربعه الأول قبل الإساءة، أو الثاني: أن تتوارى عن المكان مكظما غيظك، ومتحملا ردة فعلك الملتهبة، إلى أن تهدأ نفسك، وتعود إلى توازنها لتستمر حياتك كما تريد، وهذا غالبا ما يكون، حيث تتسامى النفوس، وتسمو.

وعلى كل حال يظل الخروج من مأزق الشعور بالهزيمة، هو ما ينبغي عليك فعله بأسرع وقت، حتى لا يدمي قلبك الأسف على شيء لا يستحق هذا الاهتمام منك، ولأنك كنت شجاعا، وسامحت من أساء إليك، عليك بالهروب سريعا إلى مساحة تحقق لك أمنا نفسيا، ولو مؤقتا، حتى تهدأ العاصفة، وتذيب كرة الثلج التي تراكمت في ساعتها بأسرع من البرق، صحيح هي معركة ليس يسيرا اكتسابها، ولكن من يروض نفسه على ذلك، أتصور، أنه يستطيع، خاصة أننا في مجتمع تتوالد فيه مجموعات «الأسفات» إلى درجة تشعرك بأن المخطئين أكثر من الحريصين على الصواب، في الوقت الذي تضع لنفسك «خط رجعة» كذلك، لأنك معرض، أيضا، في أي لحظة لأن تخطئ، وتجد آخرين يتسامحون معك إلى درجة كبيرة، فإكبارك أمامهم في لحظة ضعف، هي التي تجعلهم، أيضا، كبيرين أمامك في لحظة ضعفهم.