أفكار وآراء

من القرن الأمريكي إلى القرن الآسيوي: وجهة التحولات وحدودها

18 أكتوبر 2019
18 أكتوبر 2019

صلاح أبو نار -

ينسب إلى نابليون بونابرت انه قال في صدد حديث عن الصين: «دعها نائمة لأنها عندما تستيقظ سوف تهز العالم»، وبعد مرور أكثر من قرن سنجد الجنرال الألماني الشهير كارل هاوشوفير يتنبأ عام 1924 بقدوم ما دعاه «العصر الباسفيكي». ويبدو أننا الآن بالفعل لم ننطلق فقط في الطريق إلى هذا العصر بل توغلنا كثيرا فيه، وان القرن الجديد سوف يصبح قرن آسيا بقدر ما كان القرن العشرون قرن أمريكا، في نطاق عملية تاريخية بات من المتفق على تسميتها: «آسينة العالم».

إذا أردنا أن نفهم عملية الآسينة فهما تاريخيا كاملا ودقيقا، يتعين علينا أن نخفف كثيرا من الهيمنة الشديدة لعنصرين مترابطين داخل النقاش الدائر حول تلك العملية، هما: موقع آسيا من الاقتصاد العالمي والصعود الاقتصادي الصيني. وإذا تمكنا من تحقيق ذلك فسوف نلاحظ بوضوح، أن عملية الآسينة كانت تختمر وتتقدم بقوة داخل القرن السابق، في سياق انحسار تغريب العالم في نصفه الأول وتصاعد أمركة العالم في نصفه الثاني. وعبر هذا المنظور يمكن أن نقترح تحليل آسينة العالم عبر المستويات الثلاث التالية.

سنجد المستوى الأول والأكثر قدما في بروز التأثير السياسي العالمي لآسيا على امتداد العالم، عبر مسار صراعات حركة التحرر الوطني وتأثيراتها على امتداد العالم، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ونجد هنا عدة وقائع أساسية: نضال الشعب الهندي السلمي بقيادة المهاتما غاندي، الذي نجح في تحقيق استقلال الهند عام 1947 وكان مصدرا لإلهام النضال السلمي في العالم الثالث. ومعركة ديان بين فو 1954 التي خاضها الفيتناميون ضد قوات الاحتلال الفرنسي والحقوا بها هزيمة أسطورية، شكلت المدخل لاستقلال فيتنام 1955، ومارست في تأثيرها العام على حركات التحرر الوطني في العالم نفس تأثير معركة السويس 1965، وشكلت إحدى القوي الدافعة لحرب التحرير الوطنية الجزائرية بكل تداعياتها الأفريقية. ومؤتمر باندونج 1954 الذي جمع قادة حركات التحرر الوطني، ومنه انطلقت حركة عدم الانحياز ودورها الدولي، وسياسات التنمية الاقتصادية الراديكالية في العالم الثالث. وفي الستينات شهدت آسيا الجولة الثانية من ملحمة النضال الفيتنامي، التي شكلت مصدرا لإلهام العالم الثالث كله.

وكان ذلك كله في القرن الماضي، وشهدت العقود الأخيرة من هذا القرن انطلاق تيارات آسيوية أخرى تصاعدت قوتها في القرن الجديد، وحملت وستحمل مؤثرات قوية وعالية الإيجابية سيقدر لها أن تلعب دورا كبيرا في تشكيل العالم المعاصر. من هذه المؤثرات تجارب بعض دول الأغلبيات الإسلامية الآسيوية مثل ماليزيا في التوفيق بين نزعة الهوية الإسلامية ونزعات الحداثة و(المقرطة) - أي النجاح في حل المعضلة التي تقف حجر عثرة في وجه تحولات الحداثة في دول العالم العربي. ومنها ثانيا تجارب التفكيك السلمي والتدرجي الناجح للنظم التسلطية القديمة الحاكمة، عبر منهج تمكن من تحقيق مزاوجة بين الدولة المركزية التنموية والانفتاح السياسي والمشاركة العامة والتعبئة الوطنية، مبتعدا عن منطق الطفرة السياسية بما يحمله من صراعات حادة وقابلية للارتداد. ومنها ثالثا نزعة التركيب بين منطق السوق الرأسمالي والعولمة، وسياسات التخطيط والتنمية وتوظيف الخبرات التكنوقراطية واستقلالية القرار الوطني الاقتصادي.

وسنجد المستوى الثاني في ظواهر آسينة الممارسات الاجتماعية عبر أشكال مختلفة. كتبت يارا بيرج في هذا الصدد: «في سان فرانسيسكو او سياتل او هيوستون، يمكننا في يوم واحد من أيام عطلتنا أن نشتري مستحضرات تجميل سيشيدو اليابانية، ونأكل السوشي او الساشيمي في إحدى المطاعم اليابانية المنتشرة في المدينة، ثم نذهب إلى السينما لنستمتع بإحدى الأفلام الأمريكية - الصينية الجميلة، ونعود إلى المنزل ومعنا اسبرينج رولز من احدى المطاعم الصينية التي تصادفنا في كل مكان». واذا انتقلنا من الصور التعبيرية إلى التحليل المفصل يمكننا ملاحظة ما يلي: ينتشر في العالم الآن ولع شديد بتعلم اللغات الآسيوية. هناك عشرات الألوف على امتداد العالم يسعون إلى تعلم لغات مثل الصينية واليابانية. وفي أمريكا على سبيل المثال انتشرت المدارس متعددة اللغات الانجليزية - الصينية، ويقدر أن هناك في أمريكا ما يقرب من 400.000 يتعلمون لغة الماندرين. وظهرت مؤخرا ممارسات جديدة داخل الطبقات العليا، حيث تتجه عائلات بارزة منها لتعليم أولادهم لغة الماندرين. والأمثلة هنا تشمل أسماء مثل جيف بيزوس مالك شركة الأمازون، والأمير ويليام الثاني الوريث الثاني للعرش البريطاني، وايفانكا ترامب وزوجها. وأضحت الرياضة الآسيوية تحتل بؤرة الاهتمام العالمي. تنتشر الألعاب العقلية الآسيوية مثل السودوكو في العالم كله، وفي عام 2015 قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة اعتبار 21 يونيو من كل عام اليوم العالمي لليوجا لتمنح هذه الرياضة الهندية اعتبارا عالميا. ويجتاح العالم ولع شديد برياضات القتال الآسيوية، ومجرد نظرة سريعة إلى أي فيلم من أفلام الحركة الأمريكية ومقارنتها بأفلام الخمسينات، تخبرنا بسيطرة أساليب القتال اليدوي الآسيوية عليها والانقراض شبه التام للأساليب الأمريكية القديمة. وفي عالم الفنون تتوغل ظواهر الآسينة. سنجد تحليلات مطولة تتحدث عن آسينه أفلام هوليوود. وتتخذ تلك الآسينة أكثر من مسار: مسار البروز القوي لنخبة من السينمائيين الآسيويين في أفلام هوليوود مثل المخرجون انج لي وتسوي هازك وكيرك ونج ورينجو لام، وممثلون مثل جون وه وميشيلية يون وجيت لي وشيون فات. ومسار آسينة طواقم العمل الفني بشكل شبه كامل، نتيجة للاتجاه لإنتاج أفلام آسيوية الموضوع والمكان والتوزيع، وللانخفاض الشديد في اجور الفنيين الآسيويين. ومسار آسينة الأساليب الفنية حيث أصبح هناك الآن على سبيل المثال، ما يعرف في هوليوود بأسلوب هونج كونج وأسلوب جاكي شان. وليس الأمر فقط مقصورا على السينما. ففي مجال الموسيقي والغناء بدأ المطربون والموسيقيون الآسيويون في اكتساح العالم، وأبرز النماذج هنا أغنية جانجنام ستايل لمغني الراب الكوري ساي، التي وصلت مشاهداتها على يوتيوب إلى 3.5 بليون مشاهدة. وفي مجال الإنتاج الأدبي يبدو الإنتاج الأدبي الآسيوي في حالة تغلغل على اتساع العالم. ولدينا مؤشر بسيط ولكنه قاطع في هذا الصدد، هو عدد الفائزين بجائزة نوبل في الآداب من أدباء آسيا. على مدى 81 عاما امتدت من 1913 إلى 1994 فاز أدباء آسيا أربع مرات فقط، ولكن على مدى 12 عاما فقط امتدت فيما بين 2000 و2012 فازوا بها ثلاث مرات. وتبدو قيم التنظيم الاجتماعي الآسيوي الآن موضعا لإعجاب عالمي متزايد. ونعني هنا بالتحديد قيمة الأسرة، واحترام كبار السن، والترابط في الإدارة الاجتماعية، والمزج بين الحداثة والتقاليد، والتضافر بين الأجيال.

وسنجد المستوى الثالث في عالم الاقتصاد. يتوزع الاقتصاد الآسيوي بين 53 بلدا، تضم حوالي خمسة بلايين من البشر، يشكلون نصف سكان العالم. وتنتج آسيا نصف الناتج المحلي العالمي، ويوجد بها ثلثي النمو الاقتصادي العالمي، وتملك بلدانها أكبر احتياطيات العالم للعملة الصعبة، وبالتالي تلعب دورا حاسما في استقرار العالم المالي. وبالنظر إلى أكبر عشر قوى اقتصادية في العالم، سنجد بينها ثلاث هي الصين واليابان والهند في المراكز الثانية والثالثة والسابعة على التوالي. وتملك اقتصاديات آسيا الكبرى قاعدة حضرية، واسعة مكونة من مدن حديثة وعملاقة يصل تعداد بعضها مثل طوكيو إلى 32 مليون، ويصل إنفاق الحكومات علي البني التحتية الحضرية إلى 30% من الإنفاق العام. وتعيش في تلك المدن طبقة حضرية واسعة ومتعلمة، مرتفعة الدخل عالية الطلب وتتمتع بشبكة اتصالات سيبرانطيقية كثيفة، تستخدمها في تعاملات مالية واسعة في مجالات التسويق والتوفير والتمويل. وتتميز اقتصاديات آسيا ليس فقط بكثافة علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم، بل أيضا بكثافة علاقاتها الاقتصادية الداخلية، وهو ما يعني أن الاقتصاد الآسيوي يتحرك على محوري العولمة والاندماج الإقليمي. وتبدو تلك الحواضر الآسيوية من أكثر حواضر العالم تأهلا لاقتحام آفاق الثورة الصناعية الرابعة. والخلاصة انه على مدى العقود الثلاث الأخيرة، أخذ مركز النظام الاقتصادي العالمي في الاتجاه صوب شرق آسيا، ومن المتوقع خلال العقدين القادمين أن يكون قد انتقل بالكامل. واذا وضعنا في اعتبارنا مبادرة الحزام والطريق التي انطلقت عام 2015، يمكن القول أن هذه المبادرة التي تحظي بدعم تمويلي آسيوي واسع، ترسي أسس البنية التحتية المسرعة لإيقاع هذا الانتقال الجاري والمتصاعد. وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نطرح أن الصراع التجاري الراهن بين أمريكا والصين، في مساحة أساسية من أسبابه محاولة أمريكية لعرقلة هذا الانتقال.

ولكن آسينة العالم مهما تمكنت من التقدم في سياق الصراعات التي ستواجهها، لن تتمكن بأي حال أن تحقق نفس النجاح الذي حققه تغريب العالم من قبل. ذلك أن التغريب جاء مسلحا بالإكراه في ركاب الغزو الأوروبي لشعوب آسيا وأفريقيا، والأخطر أن طلائع ذات الشعوب سعت بحماس للاندماج فيه في سياق لحظة تفاوت حضاري عميق. كما أن التغريب خلف وراءه تبعية ثقافية عميقة، تكونت علي مدى قرون، وخلقت معها نخب ومؤسسات تعيش علي إدارتها وإعادة إنتاجها. والأخطر أن هذه البنى محصنة بأسوار من اللغات الأوروبية وتراث إنساني ثري وعميق مكتوب بتلك اللغات، ولن تتمكن اللغات الآسيوية من تفكيك تلك الأسوار اللغوية، كما لن تتمكن نخب العالم الثالث من الولوج السريع والمكثف إلى عالم اللغات الآسيوية.