أفكار وآراء

تفكك النظام الاستراتيجي الآسيوي

05 أكتوبر 2019
05 أكتوبر 2019

جيديون راكمان - الفاينانشال تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

حين يشيخ المرء ويطعن في السن فإنه غالبا ما يعاني من متاعب صحية كثيرة لاتوجد علاقة ظاهرة بينها مثل الحميات والأوجاع والآلام وكذلك التعثر والسقوط الفجائيين. وربما أن شيئا شبيها بذلك يحدث حين يصل نظام استراتيجي إلى نهاية عمره.

شهد يوليو الماضي حشدا من الأحداث الدبلوماسية والأمنية التي تمثل أعراضا لمرض أوسع نطاقا. ففي أواخر ذلك الشهر نفذت القوات الجوية الصينية والروسية أول دورية جوية مشتركة لهما في المنطقة مما دفع الطائرات الحربية الكورية الجنوبية إلى إطلاق المئات من القذائف التحذيرية تجاه «المتطفلين» الروس.

ويواجه الكوريون الجنوبيون أيضا أخطر تدهور في علاقتهم مع اليابان على مدى عقود حيث فرض اليابانيون قيودا تجارية في نزاع تعود جذوره إلى الحرب العالمية الثانية. كما استأنفت كوريا الشمالية أيضا اختبارات صواريخها معرضة بذلك للخطر الجهود السلمية التي تقودها الولايات المتحدة. أيضا تبدو كل نقاط الاشتعال الأخرى في شرق آسيا أكثر قابلية للانفجار (تايوان وبحر الصين الجنوبي وهونج كونج والحرب التجارية الصينية الأمريكية).

كما زادت الاحتجاجات والإضرابات من زخمها في هونج كونج وبدأ المسؤولون الصينيون يناقشون علنا في أوائل أغسطس التدخل العسكري. أيضا تحدث مسؤول في البيت الأبيض عن حشد قوات صينية في الجهة المقابلة من الحدود مع هونج كونج. لكن يظل الانشغال الأساسي لإدارة ترامب متمثلا في نزاعها التجاري مع الصين الذي احتدم مؤخرا مع فرض الولايات المتحدة حزمة جديدة من الرسوم الجمركية.

كما شهد شهر يوليو أيضا دخول سفينة استكشاف نفط صينية إلى منطقة بحرية تعتبرها فيتنام جزءا منها مما قاد إلى مواجهة بين الصينيين المدججين بالسلاح والسفن الفيتنامية.

أيضا أطلقت حكومة الفلبين أجراس الإنذار حول غارات بحرية صينية وطلبت عونا أمريكيا. وأكدت أخبار إنشاء الصين قاعدة عسكرية في كمبوديا صلابة عزمها على فرض وجودها. وهي القاعدة الأولى لها في جنوب شرق آسيا. كما تتواصل التوترات حول تايوان. ففي أواخر يوليو أبحرت سفينة حربية أمريكية عبر مضيق تايوان. ونشرت الصين كتابا أبيض حول سياستها الدفاعية تتهم فيه الحكومة التايوانية بالسعي إلى الاستقلال وهددت برد عسكري.

في الأثناء، تحدثت الولايات المتحدة عن نشر قريب للصواريخ المتوسطة المدى في شرق آسيا بعد انسحابها من معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى.

ظاهريا يبدو أنه ليس ثمة رابط بين العديد من هذه الأحداث. لكنها في مجموعها تشير إلى نظام أمني إقليمي يتداعى. فلم يعد من الممكن اعتبار التفوق العسكري للولايات المتحدة ولا إمكانية التنبؤ بتصرفاتها الدبلوماسية تحصيل حاصل. ولم تعد الصين على استعداد للقبول بدور ثانوي لها في النظام الأمني لشرق آسيا. في ظل هذه الظروف الجديدة تعكف البلدان الأخرى بما فيها روسيا واليابان وكوريا الشمالية على اختبار (متانة أو تخلخل) قواعد هذا النظام.

لقد شهدت الأربعة عقود الماضية نموا وازدهارا غير مسبوقين حول شرق آسيا أحدثا أيضا تحولا في الاقتصاد العالمي. لكن المعجزة الاقتصادية لآسيا اعتمدت على السلم والاستقرار اللذين رسخا في منتصف السبعينات مع نهاية حرب فيتنام وتقارب أمريكا مع الصين.

منذ ذلك التاريخ لم ترفض أمريكا صعود الصين بل سهلت صعودها. في مقابل ذلك قبلت الصين ضمنا بأن تظل أمريكا القوة العسكرية المهيمنة في المنطقة الباسيفيكية الآسيوية. ويمكن أن تسمي تلك الترتيبات «نظام كيسنجر» في شرق آسيا. (هنري كيسنجر هو وزير الخارجية الأمريكي الذي لعب دور الوسيط في تأسيس العلاقة بين أمريكا والصين في أوائل السبعينات ) لكن الرئيسين الصيني شي جين بينج والأمريكي دونالد ترامب رفضا كلاهما العناصر الأساسية لنظام كيسنجر. فترامب تخلى عن فكرة أن العلاقات الأمريكية الصينية مفيدة للطرفين وذلك بشن حربه التجارية. هذا في حين شرع شي جين بينج في تحدي الهيمنة الإستراتيجية للولايات المتحدة.

لقد طرح تحدي الصين للقوة الأمريكية سؤالا حول استمرار الهيمنة الإستراتيجية الأمريكية في آسيا. وبدلا من أن يقدم ترامب تطمينات في هذا الصدد زاد من البلبلة بتشككه علنا في قيمة تحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية. فقد ذكر وزير خارجية آسيوي مؤخرا أن «الدمار الذي أحدثه ترامب (في آسيا) سيظل باقيا بعد ذهابه». إن فقدان النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة واضح في عدم قدرتها على السيطرة على النزاع بين اليابان وكوريا الجنوبية، أهم حليفتين لها في المنطقة. بل حتى الأستراليين بدأوا يتشككون في القيادة الأمريكية. لقد قال لي دبلوماسي أسترالي رفيع المستوى مؤخرا أن «لحظة افتراق أمريكا وأستراليا حول السياسة تجاه الصين ستحل مع احتدام الحرب التجارية».

لكن الشكوك حول القيادة الأمريكية لا تضاهيها أية رغبة في سيطرة الصين على المنطقة. بل بالعكس من طوكيو إلى تايبيه ومن كانبيرا إلى هانوي هنالك انزعاج متزايد من تصرفات بكين. وهو يزداد مع التقارب المتنامي بين الصين وروسيا. ومن وجهة نظر موسكو أكدت الدورية الجوية المشتركة مؤخرا على عودة روسيا كقوة باسيفيكية تماما كما كان التدخل العسكري في سوريا مؤشرا على عودتها كقوة في الشرق الأوسط.

لم يحل نظام كيسنجر في شرق آسيا معظم النزاعات والتنافسات التاريخية في المنطقة. لكنه أعان على تجميد الصراعات الإقليمية وشراء الوقت للتنمية السلمية. لقد تغير الآن المناخ الجيوسياسي. لذلك بدأت الصراعات المجمدة في التحرك مرة أخرى. ومع ذوبان «الثلوج» من الممكن أن تتحرك الأشياء سريعا بطرائق خطرة ولا يمكن التنبؤ بها.