أفكار وآراء

بـوتــين وتــرامـــب فــي إفـريقيــا

22 سبتمبر 2019
22 سبتمبر 2019

جرانت هاريس ومايكل مكفول  -

واشنطن بوست - ترجمة: قاسم مكي -

لا يزال هنالك انقسام عميق بين الرئيس الأمريكي وإدارته حول العديد من قضايا السياسة الخارجية. لنأخذ روسيا مثالا على ذلك. ففي حين يواصل دونالد ترامب تقاربه العريض مع فلاديمير بوتين يتخذ الدبلوماسيون والعسكريون ومسؤولو الخزانة الذين يعملون معه موقفا متشددا تجاه الكرملين.

نجح ترامب بقدر كبير في إيجاد إجماع داخل إدارته حول ما ندعوه «مبدأ الانسحاب». فهو بدلا من تولي قيادة العالم الحر والارتباط بالمجتمع الدولي يتراجع عن الوفاء بالالتزامات الأمريكية (تجاه العالم). لقد سحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني وشراكة عبر المحيط الهادي ومعاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى. كما خفض أو تجاهل الوجود الأمريكي في مناطق عديدة حول العالم.

لكن مع مرور الوقت بدأ «مبدأ الانسحاب» في تقويض التزام الإدارة الأمريكية بالعمل على ردع واحتواء روسيا. أوضح مكان يتجلى فيه هذا التناقض هو قارة إفريقيا. فتدني اهتمام إدارة ترامب بإفريقيا أوجد فرصا جديدة لتغلغل روسيا في القارة. ومع سحب الولايات المتحدة بعض قواتها من هناك وبعثها بإشارات دالة على عدم اكتراثها بالشؤون الإفريقية بشكل أعم زاد الكرملين على نحو مثير وخطر من معاملاته العسكرية والتجارية في أرجاء القارة.

التباين حاد بين تركيز واشنطن وموسكو على إفريقيا. فهجوم ترامب على الدبلوماسية والبرامج التنموية ترتب عنه عدم كفاية العاملين بالسفارات الأمريكية ونسيان السياسة الإفريقية. هذا ينطبق (على العمل الدبلوماسي الأمريكي) في العالم ككل لكن الشق المتعلق بإفريقيا خصوصا تضرر بشدة والتعيينات (الدبلوماسية) الجديدة هناك بطيئة جدا. وما يثير الاستغراب أن جنوب إفريقيا وهي قوة إقليمية كبيرة تملك ثاني أكبر اقتصاد في القارة لا يوجد بها سفير أمريكي منذ تولي ترامب الرئاسة.

ولا يكاد يوجد تفاعل للرئيس ترامب مع القادة الأفارقة أو حتى ما يمكن أن يقوله عن القارة باستثناء تعليق لافت «يفتقر إلى اللباقة» ولا تزال أصداؤه تتردد حول القارة.

وفي حين يفقد ترامب شركاء ونفوذا في إفريقيا بسرعة ولامبالاة مذهلتين يسعى بوتين في همة لعقد صفقات وإقامة علاقات أمنية في أرجاء القارة. ففي الشهر القادم ستستضيف روسيا أكثر من 50 زعيما إفريقيا في مؤتمر بمنتجع سوشي. كما وقعت روسيا منذ تعرضها للعقوبات الغربية عشرين اتفاقية عسكرية مختلفة مع بلدان إفريقية جنوب الصحراء.

إن موسكو أكبر مزود بالسلاح للقارة الإفريقية بما لا يقاس. ليس ذلك فقط بل هي تستخدم وكلاء ومتعهدين عسكريين للتغلغل داخل حكومات إفريقية معينة. وكشفت وثائق مسربة استراتيجية روسية منسقة لتوسيع نفوذها ووجودها العسكري. الشيء نفسه ينطبق على توسيع موسكو لنفوذها الاقتصادي حيث تنطلق شركات ترعاها الدولة في أرجاء القارة بحثا عن صفقات تتعلق بالطاقة والمعادن وأيضا عن أسواق لتصدير المنتجات الزراعية وسواها.

إن سياسة واشنطن تجاه إفريقيا محزنة في حد ذاتها. لكن تصاعد نفوذ مركز روسيا في القارة يشكل تهديدا أوسع نطاقا. وسيؤدي تجاهل الولايات المتحدة للمنطقة بمرور الوقت إلى إضعاف قدرتنا على مواجهة موسكو عالميا. كما أن روابط موسكو الاقتصادية المتنامية في إفريقيا تلطف من قسوة العقوبات الأمريكية والتي هي الأداة الأساسية التي يتم توظيفها لمحاولة عزل وتقييد موسكو. هذا وتعين الاتفاقيات الجديدة في إفريقيا موسكو على حماية نفسها من الضغوط الغربية وذلك بحصولها على السلع واكتساب حقوق قيمة لاستخراج المعادن ورفد خزينة الدولة بالمزيد من المال.

في بعض الحالات تلتف علاقات موسكو الإفريقية حول العقوبات نفسها. فمثلا شركة فاجنر، وهي مجموعة مرتزقة سيئة السمعة لها علاقات وطيدة بالكرملين، تقرر إدراجها في قائمة العقوبات لكنها رغم ذلك «متموضعة» بعمق داخل إحدى الحكومات الإفريقية.

كذلك تمنح العلاقات القوية مع الدول الإفريقية بوتين نفوذا على المسرح الدولي (الدول الإفريقية تشكل أكثر من ربع عضوية الأمم المتحدة) مما يعين موسكو على خدمة أجندتها عالميا ومواجهة المحاولات الغربية لعزل روسيا. من جانب آخر تؤدي نزعة بوتين لدعم وتسليح المستبدين في إفريقيا إلى المزيد من عدم الاستقرار الإقليمي وتصطدم بالمصالح الأمريكية.

أبهج إهمال ترامب للعلاقات مع بلدان القارة موسكو (وبيجينج أيضا). وللمفارقة تعتبر استراتيجية الإدارة الأمريكية في إفريقيا التصدي للنفوذ الروسي في إفريقيا أحد أهدافها. لكن ليس هنالك ما هو أوضح من التباين بين السياسة الفعلية لواشنطن هناك وبين هذا الهدف.

مقاربة الإدارة الأمريكية قوية في نقدها لموسكو وبيجينج لكنها ضعيفة في دعم النمو الديمقراطي والاقتصادي الذي من شأنه تقليص النفوذ الروسي. ولن يكون الكلام المجرد مقنعا للقادة الأفارقة على نحو مماثل للاستثمار في البنيات الأساسية أو التعاون الأمني. وفي حين أن الإدارة الأمريكية تزيد من جهودها لدعم الاستثمار (وهذه بداية مرحب بها) إلا أن خفض حجم قواتها هناك وتقليص التعاون في محاربة الإرهاب سيتيحا مجالا واسعا لروسيا للتقدم وشغل الفراغ.

لا يمكن للولايات المتحدة ردع روسيا الساعية لتعديل ميزان القوى وفي ذات الوقت فك ارتباطها بالعالم. لا يزال هنالك العديدون من القادة الأفارقة الذين يتلهفون إلى ارتباط أعمق بالولايات المتحدة. وستخدم تقوية هذه العلاقات الأمن القومي للولايات المتحدة بشكل عام وأيضا تساهم في مواجهة روسيا بفعالية. ومن شأن اعتماد استراتيجية أمريكية أذكي في إفريقيا تعزيز تبني سياسة أكثر نجاحا في احتواء روسيا.

  • الكاتبان هاريس، رئيس شركة هاريس آفريكا بارتنرز. عمل مديرا أول لشؤون إفريقيا بالبيت الأبيض في الفترة من 2011 إلى 2015. ومكفول، مدير معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية وزميل هوفر بجامعة ستانفورد .ألف كتابا بعنوان «من الحرب الباردة إلى السلام الساخن: سفير أمريكي في روسيا بوتين».