أفكار وآراء

في ضوء انتخابات موسكو .. روسيا إلى أين؟

20 سبتمبر 2019
20 سبتمبر 2019

إميل أمين/ كاتب مصري -

[email protected] -

ما الذي جرى الأسبوع الأول من سبتمبر الجاري خلال الانتخابات التي شهدها مجلس مدينة موسكو، وهل تحمل النتائج دلالات خاصة يمكن أن تنسحب على مكانة الرئيس بوتين في الداخل الروسي؟

الشاهد أن هناك الكثير من الأسئلة التي أثيرت روسيّا وعالميا حول النتائج، لا سيما بعد التراجع التاريخي للمرشحين الموالين لبوتين والحزب الحاكم، فقد خسر الأخير ثلث مقاعده، مقابل فوز المرشحين الشيوعيين بـ 13 مقعدا، والحزب الليبرالي بـ 5 مقاعد، في حين حصل حزب روسيا العدالة على ثلاثة مقاعد، فكيف حصل ذلك رغم كل الهالة التي تحيط بالرئيس بوتين؟

يبدو أن هناك قراءات مختلفة للمشهد وان كان المؤكد هو أن الموالين لبوتين قد نقص عددهم، وتقدم مرشحون لأحزاب أخرى غير محسوبة على بوتين، ومن الواضح كذلك أن المعارضة لبوتين لم تقف مكتوفة الأيدي أمام إجراءات بوتين، فقد وزعت مرشحيها الذين تدعمهم بطريقة ذكية خلال الانتخابات، واستطاعت تطويق مرشحي الحزب الحاكم والموالين لبوتين، فرجحت الكفة لصالحها.

هل نحن أمام شعبوية روسية يمينية صاعدة، أم عودة شيوعية مقنعة، لا سيما بعد أن عادت الحرب الباردة تخيم وبقوة على سماوات العلاقة ما بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص؟

قبل الجواب يمكننا الإشارة إلى انه لم يكن من الطبيعي بمكان أن لا تتأثر روسيا بحركات المد اليميني المنتشرة حول العالم في السنوات الأخيرة، سيما وان هناك من لا يزال يعيش في حالة الأسر للاتحاد السوفييتي ولعظمته السابقة، وتأخذه النوستالجيا في هذا الاتجاه، ويضحى من الصعب بمكان تصور أن لا يكتسب اليمين الروسي مساحات جديدة في الداخل الروسي.

عطفا على ذلك فان توجهات الولايات المتحدة الأمريكية، والشعارات التي يرفعها الرئيس ترامب عن أمريكا الاستثنائية، وأمريكا رقم واحد، جميعها مداخل تقود ولا شك إلى نشوء وارتقاء جماعات ذات رؤى نارية حدية، لا تعرف طريق المواءمات السياسية، بل المواجهات الحادة والقاسية، والتي تصل إلى الاغتيالات في بعض الأحيان.

والمعروف انه خلال المرحلة التي سبقت الاقتراع، شن عدد من رموز اليسار الشيوعي، وكذا اليمين المتطرف في الداخل الروسي هجوما حادا على الرئيس بوتين من أجل كسر احتكار حزب روسيا المتحدة الحاكم، من خلال ترشيح عدد كبير من الأشخاص الذين يتمتعون بسمعة جيدة لدى المواطنين، ومن أمثلة هؤلاء (اليكسي نافالني)، المرشح المعارض لبوتين.

هل ما جرى هو نتيجة لما قاله الفائزون من أنها فكرة التصويت الذكي، أم أن وسائط التواصل الاجتماعي لا سيما الفيسبوك وتويتر قد لعبت دورا مخربا أدى إلى الإضرار بحزب الرئيس وداعميه في الداخل الروسي؟

يبدو أننا أمام إجابتان محيرتان ولم تحسم بعد النتيجة النهائية، فمن جهة يرى البعض انه تم توزيع المرشحين المعروفين لدى الهيئة الناخبة بطريقة تضمن تغطية كامل المناطق الانتخابية ضد مرشحي الحزب الحاكم، حيث تم انتخاب حكام للمناطق، وعشرات من الهيئات التشريعية المنتخبة، ومئات من السباقات البلدية.

في هذا الإطار يرى نافالني أن ما وصفه بالاقتراع أو الانتخاب الذكي، كان يعد الوسيلة الوحيدة لكسر انفراد الحزب الحاكم لذا فقد اقبل الناخبون بقوة على الاقتراع، وهذا ما حدث بالفعل.

لكن هذا التفسير لم يقنع بحال من الأحوال القائمون على شؤون الكرملين، فقد قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية « ديمتري بيسكوف»، أن خسارة حزب روسيا الموحدة لثلث مقاعده في مجلس موسكو، لا يعود لنجاح دعوات (التصويت الذكي)، أو الاحتجاجي ... ما السر إذن؟

الشاهد انه عندما سئل الرجل عن أسباب الضعف النسبي لدعم الناخبين لـ«روسيا الموحدة في موسكو، مقارنة مع المناطق الروسية الأخرى»، قال بيسكوف: لعلكم تعلمون أن التقلبات في الأرقام أمر ممكن في الانتخابات، وسيكون من الخطأ الجسيم استخلاص استنتاجات معينة من ذلك، فالاستنتاجات الأكثر صحة هي تلك التي تقدم الصورة العامة.

لم يكن رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف ليصمت أمام الجدل الدائر، ولهذا وصف نتائج الانتخابات بانها جيدة جدا، ومشير إلى أن الحزب حصل في هذه الانتخابات على 85 % من أصوات الناخبين.

وقد لفت أيضا إلى أن الحزب الحاكم عزز تمثيله في كثير من مناطق البلاد، فضلا عن أن جميع رؤساء الأقاليم الذين ترشحوا عن روسيا الموحدة، أو حظوا بدعمه بشكل أو باخر، فازوا بالانتخابات.

لكن على الناحية الأخرى تظل إشكالية تدخل وسائط التواصل الاجتماعي بشكل كبير ورهيب في المشهد، ويبدو أن الأمر له علاقة بصراعات سيبرانية اكبر وأعمق وربما اخطر من مجرد انتخابات مجلس موسكو ... ما الذي نعنيه بهذا الحديث؟

يتذكر القارئ أن هناك إشكالية لم تحسم بعد، أنها الاتهامات الأمريكية لا سيما من جانب الحزب الديمقراطي لروسيا الاتحادية عامة، وللرئيس بوتين بنوع خاص، بالتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016، وتشكيك الناخب في نزاهة المرشح الديمقراطي السيدة هيلاري كلينتون، الأمر الذي أدى إلى فوز مؤازر لدونالد ترامب ... هل بدا الأمريكيون الانتقام العكسي، بمعنى التأثير بنفس الطريقة على مقدرات بوتين في الداخل الروسي، والبداية من عند مجلس موسكو وتاليا الدوما، وصولا إلى مقام الرئاسة الروسي العالي؟

الشاهد أن السلطات الروسية قد اتهمت فيسبوك وجوجل بنشرهما دعاية سياسية هدفها الرئيس التأثير على الرئيس بوتين وحزبه، لا سيما ضمن حملة (اليكسي نافالني) ،الذي كان يدعو إلى عدم التصويت لمرشحي حزب روسيا الموحدة أي حزب السلطة.

وقد كانت الاتهامات موضوعا رئيسيا لاجتماع فريق العمل في اللجنة المؤقتة لحماية السيادة الروسية، التابعة للمجلس الفيدرالي أي الغرفة العليا في البرلمان الروسي، ولجان أخرى تابعة لمجلس الدوما، والمجلس الاجتماعي.

أين الحقيقة من هذه الاتهامات؟

الشيء المؤكد هو أن مؤسسة (روسكومنزور) أي هيئة الرقابة الفيدرالية الروسية، كانت قد قالت في أعقاب الانتخابات، نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري، أنها سجلت حالات نشر دعاية سياسية، على المساحات الإعلانية في فيسبوك وجوجل، في اليوم الأخير قبل الاقتراع، وهو اليوم المعروف باسم (يوم الصمت الانتخابي)، والذي لا يجوز فيه بحسب الأعراف المعمول بها في كل دول العالم ممارسة أي نوع من الدعاية لأي مرشح، سواء كانت دعاية إيجابية أو دعاية سلبية.

وعلى الرغم من أن جوجل ردت بالقول أنها تدعم الإعلانات السياسية المسؤولة، بما يتوافق مع القوانين والتشريعات المحلية للبلد، وفيسبوك أشارت إلى أن الجهة التي تقوم بتحميل الدعاية للنشر هي التي تتحمل المسؤولية عن الالتزام بالتشريعات والقوانين الانتخابية في روسيا، إلا أن هناك الكثيرين من الروس باتوا مقتنعين بان ما جرى هو خطوة انتقامية غربية من بوتين، وان خطوات أخرى قادمة سوف تتبعها.

لماذا تبقى انتخابات مجلس موسكو مهمة على هذا النحو حتى يدور من حولها مثل هذا السجال الكبير والمثير؟

في غالب الأمر يعد الكثيرون موسكو ومجلسها بمثابة المفتاح اللازم للوصول إلى السلطة في البلاد، فعلى سبيل المثال فان (نافالني) يعد غريم بوتين، ومنع في العام الماضي من خوض انتخابات الرئاسة بسبب اتهامه باتهامات تقول المعارضة إنها واهية، وفي كل الأحوال تعتبر انتخابات مجلس مدينة موسكو بمثابة اختبار للكرملين قبل الانتخابات البرلمانية الوطنية المقرر اجراؤها في عام 2021 ثم الانتخابات الرئاسية والتي يمنع فيها بوتين من الترشح حسب قانون تحديد الولايات الرئاسية.

هل هناك أسباب واقعية على الأرض تفسر لنا ما حدث بصورة ثالثة وبعيدا عن التناحر القائم بين الفائزين والمهزومين من الطرفين الروسيين؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك، فقد رجح الكثير من المراقبين والذين لهم دالة على الشأن الروسي أن هناك أسبابا داخلية حقيقية قد قلصت من فرص حزب السلطة في الفوز المطلق، ومن بين تلك الأسباب حالة الركود الاقتصادي التي تعم البلاد، عطفا على بعض السياسات التي انتهجها حزب روسيا الموحدة، ولا سيما إصلاح نظام المعاشات التقاعدية الذي لم يحظ بشعبية، إضافة إلى سلسلة الاتهامات بالفساد التي طالت منتخبين ومسؤولين تحت رايته، واطلق موطنون روس اسم (حزب المحتالين واللصوص)، على (حزب روسيا المتحدة)، وهو ما جعل اغلب أعضائه يترشحون لمجلس مدينة موسكو (خوفا من صدمة النتائج العكسية)، على حد وصف مواطن روسي ضمن تدوينه على فيسبوك.

لكن وعلى الرغم من ذلك، فان السلطات الروسية أرادت أن تخرج بميزة من الانتخابات الأخيرة تحسب لصالحها، وهذا ما تجلى في تصريحات رئيسة مجلس الاتحاد في البرلمان الروسي (فالنتينا ماتفيينكو)، والتي اعتبرت أن اقتراع 8 سبتمبر اثبت فعالية النظام الانتخابي والتشريعات الانتخابية في روسيا، معربة عن اعتقادها بانهما لا يحتاجان أي إصلاح جذري.

ويبقى السؤال: هل بوتين بعيدا عن تجاذبات هذه الانتخابات؟

عند البروفيسور (جان رادفانيي)، الأستاذ في المعهد القومي للغات والحضارة في باريس انه عند إعادة انتخاب بوتين في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الروسية في 18 مارس 2018 وحصوله على نتيجة عالية من الأصوات المقترعة، اندهش الجميع حتى أنصار بوتين، وكانت أغلبية المراقبين قد كشفت أن مستوى التلاعب في هذه الانتخابات كان متدنيا بالقياس إلى الانتخابات السابقة، فكانت هذه إشارة إلى التأييد الذي يحظى به الرئيس، وسط الأهالي، وهو تأييد وصل إلى مستوى غير مسبوق من الضخامة والارتفاع، وإشارة تؤيدها، أيضا استمارات واستطلاعات الرأي العام.

هل هناك إذا من يريد أن يمضي بوتين بعيدا عن الكرملين وهو في صورة سلبية مغايرة عن تلك التي اكتسبها في الانتخابات الأخيرة؟

المؤكد انه ما من فرصة رسمية أخرى للاقتصاص من بوتين، فلا رئاسة قادمة له، الأمر الذي يفسر لنا ما الذي يمكن أن يتعرض له ارث بوتين بعد رحيله، وهذه قصة أخرى من قصص المواجهة الباردة بين موسكو وواشنطن.