رندة_صادق
رندة_صادق
أعمدة

عطر: وغابت الحكايات

18 سبتمبر 2019
18 سبتمبر 2019

رندة صادق -

[email protected] -

الحكايات أجمل ما في خزائن العرب من حكم ومن نوادر وقصص لا يمكن حصرها أو تحديد مصادرها، وهي تشير الى تلك المخيلة الفياضة التي تمتع بها العرب وتاهت بين الحقيقة والأسطورة في كثير من الأحيان. هذا النوع كان يعرف بالمشافهة أي «الرواية الشفهية» التي كانت تنقل بالتواتر ويتندر بها الكبار وترددها الجدات والأمهات وكانت نجوم الديوانيات والجلسات وليالي السمر. تلك الحكايات الشعبية كانت تتحدث في كل شيء وعن كل شيء يتعلق بالوجود الإنساني، من بداية الخلق الى حكاية الخطيئة الأولى ونوادر الظرفاء والبخلاء وبطولات أسطورية تسرد أدق التفاصيل التي تفوق حدود العقل وتتحدى بنيته وكذلك تواجه المنطق لتهز كينونته.

وبالطبع تناولت تلك الحكايات قصص الجن والعمالقة والوحوش، وكرست مفاهيم اجتماعية ونمطية وضعت المرأة والرجل في قوالب جامدة وتحت ضغط القوانين الثابتة والأحكام المسبقة، اختلطت بالموروثات الشعبية ولقد تفوقت بنقاط كثيرة على العقائد والدساتير وتحولت الى أعراف أقوى من الأديان .

ومن أهم أنماط الحكايات الشعبية التاريخية «السير الشعبية» وأبرزها السّير التي ما زالت راسخة في الذّاكرة الشّعبيّة العربية: السّيرة الهلالية وسيرة الزير سالم وسيرة عنترة بن شداد.. وأغلب هذه الشخصيات هي شخصيات تاريخية عربية إسلامية لها جذور حقيقية ومع هذا لا يوجد دليل قاطع على أنها قصص تاريخية تؤرخ لفترات وأحداث دقيقة. من تلك الحكايات ولدت شخصية «الحكواتي» التي كانت تسرد البطولات على المستمعين، عبر الإصغاء الكلي وشد انتباههم وخيالهم، لسيرة «عنترة بن شداد» أو «أبو زيد الهلالي»، أو صلاح الدين، ولقد كان يسرد تلك الحكايات طيلة أيام وأسابيع متعمدا إثارة فضولهم لينتظروا النهاية السعيدة التي بفوز بها بطل الرواية، حيث يقضي على الأشرار والمجرمين فينتصر الخير ويسقط الشر بالضربة القاضية.

من ناحية أخرى كانت الحكايات التي تقرب الأطفال من جداتهم ومن آبائهم، حيث ما زالت صورة الجدة التي تغزل الصوف ويتجمع الأطفال حولها وهي تحكي لهم الحكايات مطبوعة في ذاكرة البعض تحضر بسحرها والحنين إليها يستعر في دهاليز الذاكرة، وتلك الأساطير التي كان الأطفال يصدقونها وينبهرون بأحداثها، لطالما تكررت السهرات وتكررت نفس الحكايات دون أن يخبت وهجها أو يخف الحماس لها. ماتت الحكايات على ألسنة الجدات وراح هذا الموروث الشعبي يتوارى وينقرض على مراحل ،وسكن الملل ليالي الشتاء وحزن قمر الصيف الأخير، لم يعد هناك أبطال ليتم تخيلهم والتماهي بهم وهاجر الخيال المجنون موطنه نحو العدم، لقد زحف الصقيع الى ذاك العالم الساحر النابض بالشخصيات الاستثنائية واحتل الجفاف مواسم لطالما أنبتت بيادرها حنطة نثرت نبضا وحياة.

غابت الحكايات ومات سحر الكلمات واحتلت الأجهزة الذكية الأدمغة المعاصرة فاتخذ الإبداع طريق التناسل المتنافر، حيث لا يوجد شكل حقيقي اليوم إلا تلك الوقائع العلمية والأخبار التي تحصد (ترنداتها) على تويتر. لقد تحولت العلاقات الى مجموعة رسائل في صناديق بريدية، تعيش تحت تهديد فيروس عابر لصحراء العولمة اللامتناهية. من جديد نحتاج مساحات لخيالنا وملاعب لأحلام تنمو بلا قيود، أو شحنات كهربائية تعيدنا أبناء للفطرة الأولى لنكون نحن أبطال الحكايات.

جدتي، الحكواتي، الحكايات، وذاكرة أبناء جيل هو آخر جيل يملك خزين الحكايات وروعتها قبل المحطة الأخيرة، فمن سيصدق اليوم بطولات هؤلاء الأبطال وكيف شق لهم الغبار وأرسوا العدل وأنصفوا الفقراء ورفعوا الظلم عن المظلومين.

للتاريخ وللذاكرة وللشهادة تلك الحكايات التي حملت قيما وقصصا، هي عبرة لمن اعتبر وشكلت نسيجا ثقافيا مهما، من المحزن نعيه بعد تغير الوعي الإنساني وتطور حاجاته.