الملف السياسي

تحولات أساسية في تعاطي «التعليم العالي» مع ثورة «المجتمع الخامس»

09 سبتمبر 2019
09 سبتمبر 2019

يسرا الشرقاوي -

أن تتواكب الأنظمة التعليمية مع احتياجات سوق العمل ومتطلبات البشرية في المستقبل وليس الحاضر فقط، تلك قضية لا تبطل «موضتها» أبدا إذا ما جاز التعبير. يعاد طرحها مرارا بدعوى دائمة أن أنظمة التعليم في الأغلب بطيئة جدا فيما يتعلق بعملية التطوير المستهدفة واللازمة لتحقيق عنصر المواكبة. ويبدو أن تلك الشكوى ستكون أكثر إلحاحا في الفترة المقبلة.

فوفقا للكتاب الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، وعنوانه «مجتمع ما بعد المعلومات: تأثير الثورة الصناعية الرابعة على الأمن القومي»، فان العالم متجه خلال فترة وجيزة جدا إلى معايشة مرحلة «المجتمع الخامس» والتي سيكون سماتها الأساسية، الاعتماد على البعد الخامس، في إشارة إلى الفضاء الإلكتروني، أو الإنترنت، بعد تجاوز الأبعاد الأربعة الأخرى وهي الأرض والجو والبحر والفضاء الخارجي. ووفقا للكتاب، فان الإنسانية تعايش حاليا «مجتمع المعلومات» ، ولكنها في سبيلها إلى « مجتمع ما بعد المعلومات»، حيث سيكون التزاوج ما بين عناصر البشرية والمعلومة والآلة، لتكون اليد العليا للذكاء الاصطناعي القادر ليس فقط على التلبية السريعة لرغبات واحتياجات البشر، ولكن أيضا استنباط تلك الرغبات قبل إدراك صاحبها وأحيانا الإملاء على الفرد ما يصح ويصلح له.

على خلفية هذه الرؤية الاستشرافية والتي لا تعتبر مفاجئة بأي شكل من الأشكال، يتوجب القلق بعض الشيء فيما يتعلق بضرورة إعادة ترتيب الأولويات فيما يخص المهارات البشرية المطلوبة للتعاطي مع عهد ما بعد المعلومات.

ولكن قبل استبيان ما إذا كان قطاع التعليم العالي العالمي قادر على التعاطي مع فكرة تطور احتياجات المجتمع وبلوغ الثورة الصناعة الرابعة؟ يتوجب السؤال حول الاستعداد الثقافي للمجتمعات للتعامل مع فكرة عناصر «الابتكار» و«التكنولوجية» كمقوم أساسي لوظائف المستقبل، وليس مجرد أحد المقومات التي يفترض توفرها. هناك رؤية طاغية، بنسبة كبيرة في الثقافات الشرقية ونسبة أقل بالثقافات الغربية، أن فكرة استناد الوظيفة والمهام العملية على عنصر «الابتكار» و «التجديد»، ينزع عن هذه الوظيفة سمات «الاستقرار» و «الاستدامة».

وهذه القضية الثقافية سوف تستلزم كثير من الوقت لتعديلها، وقد يتم التعديل بموجب عنصر « الصدمة»، إذا ما أصبحت نماذج المهام الوظيفية التي تعتمد على « الابتكار» والتحصيل المستمر للمعرفة هي الأساس المفروض الذي لا مهرب منه. وبالطبع ذلك سوف يتنم تطبيقه بشكل متفاوت من مجتمع إلى آخر وفقا لمدى التقدم العلمي والاقتصادي بكل مجتمع.

ولكن فعليا كيف ستكون استجابة قطاع التعليم العالي لهذه المتغيرات القادمة لا محالة فيما يخص متطلبات مجتمع ما بعد المعلومات والوظائف المناسبة له. وفقا لعدد من التقديرات أن طبيعة «التعلم» مستقبلا لن تكون رأسية ولكن أفقية. بمعنى أوضح، أن عملية التعلم مستقبلا سوف تعتمد على توفير خبرات متعددة في مجالات قد تكون مرتبطة. وذلك لتجهيز الخريجين على التعامل مع الاحتياجات المعقدة والمتسارعة في تطورها لسوق العمل.

ويتوقع أن يكون هناك تصاعد واضح في نماذج « التعليم أون لاين» أو عن بعد. وذلك لعدد من الأسباب، أحدها يرجع لضرورة تحصيل المتخرج لعدة معارف ومهارات، ما يجعل التعليم «الإلكتروني» دون الانتقال فعليا للتواجد في الصف الدراسي، وسيلة عملية وفعالة لتحصيل كل المهارات المطلوبة بسرعة وفي وقت متزامن. كما أن التعلم عن بعد سيحل أزمة أساسية فيما يتعلق بـ «ثغرات» المعرفة. وذلك يقصد به التفاوت في مستوى المعرفة والتقدم العلمي والتكنولوجي ما بين مجتمع إلى آخر. فالتعلم عن بعد سيسمح بانتقال المعرفة بشكل أكثر سلاسة وسرعة من المجتمع الذي يملكها إلى المجتمع الذي يفتقرها، وهكذا.

ومن أشكال التعلم المتوقع طغيانها على مستوى التعليم العالي، التوافق التام ما بين طبيعة العلم المقدم، والمهارات المطلوبة، بحيث لن يكون هناك مساحة لاستيعاب أصحاب المهارات الزائدة عن الحاجة، أو ما يطلق عليه «مشروع البطالة المقنعة». فمع سيادة التكنولوجيا في شكلها سريع التطور، لكن يكون هناك مجال لاستمرار أشكال التعلم القديم. مخرج العملية التعليمية يجب أن يكون مؤهلا بشكل كامل للتعامل مع الوظيفة التي يفترض توليها.

طغيان التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي سيكون من فوائده تيسير عملية التعلم عن بعد والتعلم المستمر. ولكن في الوقت ذاته، سيكون له تابعة سلبية أساسية في تعميق الفجوة المعرفية بالنسبة لمجتمعات الدول ذات المستوى الاقتصادي المتواضع. فعدم قدرة الفئة اللاحقة على اللحاق بركب التحصيل المعرفي المتسارع ستكون له آثاره السلبية البالغة على المكانة الاقتصادية وحتى السياسية لهذه الدول. ويلاحظ أن هذه المجتمعات ستكون خسارتها كبيرة، خاصة مع تداخل أسواق العمل المحلية والدولية بشكل وثيق مستقبلا.

التقارير الدولية ركزت أيضا على أزمة قد تكون مستفحلة في المجتمعات الغربية المتقدمة، وبدأت تظهر بشكل ما في المجتمعات ذات الاقتصاديات الصاعدة، وهي ارتفاع تكلفة التحصيل العلمي على مستوى التعليم العالي. فوفقا لأحدث التقديرات أن مديونية طلاب الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية تجاوزت المليار دولار. وأن ارتفاع تكلفة التعليم، وكذلك ارتفاع مديونية المتعلمين الذين يعملون على تسديد ديونهم على مدار فترة تتراوح بين 15 و20 عاما في مرحلة ما بعد التخرج والتوظف، أصبحت عاملا مؤثرا بالنسبة لأرباب هذه المجتمعات فيما يخص قرار دخول الجامعة.

ترجح التقديرات أن أزمة المديونية التعليمية في مجتمع مثل الولايات المتحدة الأمريكية سوف تواجه سياسيات حازمة ومبتكرة للتعامل معها، خشية التأخر العلمي بسبب محاولات الشباب تجنب خيارات التعليم باهظة التكاليف أو حتى التراجع تماما وكليا عن خيار التعليم الجامعي. وذلك يعني ثورة في سياسات التمويل العلمي على صعيد الدولة، وكذلك سياسات القطاع المالي والخاص في التعامل مع مسألة تمويل التعليم. ومن أشكال التعليم التي يتوقع أن تزدهر وتتطور الجامعات الإقليمية والمتواجدة في المدن الصغيرة، والتي يفترض أن تشهد اهتماما بالغا من جانب الدول حتى يمكنها توفير الخبرة التعليمية اللازمة ونشرها على نطاق واسع دون تحميل الفرد تكاليف باهظة لعملية تعليمية مستمرة.

يتناقض ذلك التوجه مع نموذج الجامعات الكبرى ذات الاسماء والسمعة الرنانة التي كانت لها الهيمنة خلال الفترة الأخيرة. والتي أيضا، ورغم دورها الأساسي في عمليات الابتكار والتطور، إلا أنها باتت مراكز لتكديس الفرص. فتعاني المجتمعات حاليا من تكديس الفرص الاجتماعية والمهنية والاقتصادية في أيدي خريجي جامعات الصف الأول في مختلف الدول. ولكن مع الاتساع الأفقي لعملية التعلم وحتمية انتشار نماذج المعرفة المطلوبة مستقبلا، فإن « مركزية» العلم فيما يتعلق بجامعات الصف الأول، ستتراجع حتما لصالح تأهيل مراكز تعليمية متساوية من حيث الفرص والكفاءة ومنتشرة على نطاق جغرافي أكبر.